Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Jan-2020

«مقام النخيل».. رؤية قلقة للزمن في حرْصٍ على جماليات القصيدة

 الدستور-د. إبراهيم خليل

في سياق آخر تحدثنا عن شعر إبراهيم السعافين في ديوانه فتنة الناي(1) وأشرنا إلى حرصه اللافت على الجمع بين أصالة الملفوظ الشعري والمعاصرة. أما في مقام النخيل (الأهلية للنشر والتوزيع، 2019) فحرصه على جماليات الملفوظ الشعري أظهرُ، وأبينُ، مما سبق. فهو لا يفتأ يركب من الألفاظ المتباعدة الدلالات تراكيب تنطوي على تعبيرات مجازية جديدة، في صور لا تخلو من متواليات شبه سردية قصيرة، مكثفة، تومئ إلى الإحساس المثقل بالحزن، والأسى، والشجن، تجاه مرور الزمن. ففي قصيدة « لقاءاتٌ عابرة « يوجعه أن يكون اللقاء قصيرًا، سريعًا مروره، وعابرًا في أيامنا هذه،، فالكل منا تلاحقه همومه، ومشاغله الكثيرة، التي لا تسمح بما يكفي من الوقت لاستعادة بعض الذكريات، مثلما قال الشاعر القديم: «فافْترقْنا حوْلاً، فلمّا التقيْنا/ كان تسْليمُه عليَّ وداعـا».
وها هو السعافين يتحدَّثُ عن لقاء الصديق بالصديق في المطار، وهما في عجلة من أمرهما، قبل أن يصدر النداء للمسافرين بالتوجه إلى البوابة ذات الرقم كذا... فيلتقيان. ويتصافحان للمرة الأولى بعد ثلاثين، أو أربعين من الفراق. ولا يكادان يذكران هذا حتى يحلّ الفراق من جديد، وتحين لحظة الوداع:
التقينا على عجَلٍ/ في المطار/ وألقى التحية/ يا للزمان!/ ثلاثون أو أربعون.. غداة/ افترقنا/ وكان على الشَعْر لون الغراب (ص32)
لقد أزْرى الدهرُ بالصديق، وبدل سواد شعره شيْبًا أبيض، وفارقته نضارته، وحيويته، ولم يكف اللقاء لتفحص ما تركته الأيام على ذلك الصديق من تغيير، فكلاهما سرعان ما مضى إلى غايته، وإلى نهاية الشوط صعودًا أو هبوطا:
يا للمطار/ يُوزعُ أيامنا/ في ليالي الشتات (ص32)
 على قلق
وحكاية اللقاء على أرض المطار، والافتراق، والشيب الذي يجلِّلُ الرأس، والانصياع لتلكُم اللحظة الحرجة التي يقول فيها  كل منهما لصاحبة وداعًا، حكاية لا تختلفُ، ولا تتَباينُ، عن حكاياتٍ أخْرى تفيضُ بمشاعر القَلَق، بسبب الزمن الذي يمر بسرعة مرعبة تجعلُ الإنسانَ في هلَعٍ دائم على مصيره: «وكلَّ عامِ يُرفع الستار/ ويسْمَعُ الجمهور قصَّة البحّار/ بلونها الجديد/ وتكتسي الشوارعُ الحزينةُ الظلام/ ويختفي أيارُ في الزَحام».
فالشاعر - ها هنا- تغلَّبت عليه هواجسُ القلق، والخوف من الزمن، فما الذي تأتي به الأيام غير المآسي، والمحَن، والفراق، والتشرُّد، والأحلام التي تنقلب إلى كوابيسَ مروِّعةٍ بسبب الاغتراب الذي يلفُّ حياتنا بخيوطٍ آسِرة تذكِّرُنا بحبال المشانق:
تطولُ المسافاتُ فينا/ وتمعِنُ في غرْبة بعثرتها/ الرياحُ على مفْرقِ الدربِ/ فوق الجبال/ وعبر الصحارى/ ولا شيْءَ يُمسكُ أحلامنا (ص53)
ولهذا يتكرَّر في مقام النخيل – بصورةٍ لافتة للنظر- تلهُّفُ الشاعر السعافين على استعادة الأيام الماضية، وخشيته-  في الوقت نفسه - مما يأتي به المستقبل الغامض، المنذور للنكبات، والويلات، للأسف. ها هو في قصيدة بعنوان « نثار منام « يروي لنا في صورةٍ شبه سردية كيفَ تخلَّت عنه الأحلامُ البهيَّة، بعد أن تحولت الأيام الحلوة إلى أيامٍ مرة:
عبرتْ كلُ الأيام دروبي/ أتأمَّلها/ أستَمْهلُها/ هرَبَتْ منّي الأحْلام/ لم تمنَحْني المهْلة يا لهفي/ تلك الأيام (ص58)
ومثلُ هذا يتكرَّرُ في إلحاحهِ على (ثيمة) القلق، مع الإحساس بقسوة الزمن اللاهث في قصيدة أخرى، بعنوان « لسنا نغيبُ « يقولُ في صورة لا تخلو من التكثيف المجازي: فالأيام سارحة، وشاطئ الأمس، وربوة الوقت، وورد الغياب، مجازاتٌ جديدة، ومبتكرة:
أقول لأيامنا السارحاتِ/ على شاطئ الأمسِ/ لسنا نغيبُ/ سيَطْلعُ من ربْوةِ الوقْتِ/ وردُ الغياب (ص65)
فهو في هذه الصورة، كغيرها، لا يكتفي من اللغة باستعمال ما فيها من علاماتٍ، وإشاراتٍ، تنمُّ على دلالاتٍ متواضع عليها ومتوافق، ولكنّه يلجأ إلى خلط الإيحاءات، والظلال ، فالغياب وردة، والأمس بحرٌ ذو شواطئ، والوقْتُ مكانٌ تعلوهُ ربوَةٌ، وهو على عادته هذه في قصيدة « هجُرُ الزمان « لا يفتأ يشكو قسوة الأيام التي لا تأتي إلا بالفجيعة، والألم: «طال هجرُ الزمان/ ونصْحو على فرقةٍ من بقايا المغول/ على مطَرٍ من سحابٍ مُدمّى/ على لغةٍ من لهاثِ القرود/ على صَرْصَرٍ يستبيحُ البلاد/ على هاويهْ».
وهذا التكرارُ لما يفجأ الزمان به أهله: من مغول، ومن مطر مختلط بدم الأبرياء، ومن لغةٍ فاسِدَة، ومن ريح صرصر عاتية تهلك البلادَ، والعباد، ومن هاوية تفْغَرُ فاها تهمُّ بابتلاع الجميع، هذا التكرار يَنْضافُ إلى ما سبق من صور لفظية تعمِّقُ الشعور بالفاجع، في أداءٍ شعريٍّ لا يخلو من استعاراتٍ جديدة تشهد على صدق الشاعر، وحرصه على أن تكون له بصْمتُه الشعرية الخاصة به، التي يختلفُ بها عنْ غيره. وهذه صورة أخرى تتجدد فيها محاولاته لكسْر حاجِز اللغة التقليديَّة:
ليس في هجْعة الليل إلا رموش/ القناديل، تومئُ/ والذكرياتُ الكسالى ترف ّ/ ودمْعةُ شوْقٍ تغادر/ بؤبؤها في الزحام/ ولحنٌ ينامُ على شاطئ/ الناي/ لكنَّه لا ينام (ص73)
ففي هجْعَة الليل، والرموش، والذكريات الكسْلى، وبؤبؤ العين الدامع، ونوْم اللحن على شاطئ الناي، فلا يغفو، تراكيب شعرية تقوم على مبدأ تراسل المعاني في الألفاظ، وتجاوز الحواجز التقليدية التي تفرق بين لفظ وآخر من حيث المعنى، ومن حيثُ الحيّزُ المعجميُ، فيجري على يدي الشاعر – ها هنا- مزج اللفظين المتباينين للدلالة على إحساس غامض، ومبْهم، جرى تصويره عن طريق المجاز الحيويّ، لا عن طريق التركيب المباشر التقريري. وهذا - بطبيعة الحال- يسبغُ على شعر السعافين جمالياتٍ تتجاوزُ السائد في لغة الشعر الحديث، وتنتقل به من فضاء النثر إلى فضاءٍ دلاليٍّ شعري.
 التشكيل الجمالي
على أنَّ التشكيل الجماليَّ للصورة لا يقتصر على هذا الجانب وحده. فنحن نجده في قصيدة أخرى (أرْجوحة) ينزع نزوعًا واضحًا إلى التكثيف بكتابتهِ القصيدة الوَمْضة، مثلما تسمى لدى بعض الدارسين، أو القصيدة القصيرة جدًا لدى آخرين. ولسنا في حاجَةٍ ماسَّة للحديث عن هذا النوع الشعري المستحدث، ها هنا، فقد سبق لنا أن كتبنا فيه وعنه، مثلما كتبَ غيْرنا(2). وحسبنا أن نشير لما في قصيدة السعافين من إحْساسٍ بالقلق تجاه الزمن ماضيًا، وحاضرًا، وآتيًا:
أطوفُ على الساهرين/ وأصغي إلى لغة المتعبين/ من الحبِّ والذكريات/ وأندسُّ في الغيم/ تحملُني الريحُ أرجوحةً/ بين ماضٍ تقضَّى/ وليلٍ طويلٍ/ وآتِ (ص75)
ولا ندري لمَ يلحُّ عليْنا، ونحن نقرأ هذه القصيدة، تذَكُّرُ ما عناه أبو الطيب المتنبي(354هـ) في بيته المشهور المعروف: على قلقٍ كأنَّ الريحَ تحْتي/ توجّهني يمينًا أو شِمـالا.
فالسعافينُ، في اغترابه، وَحُزْنه، وقلقه، يناظر المتنبي، ويشابهه، من هذا الوجه، فهو أرجوحةٌ تتقلَّب، وتطوحُ بها الريح ذات الشمال وذات اليمين. ولهذا النموذج القلِق أنْ لا يفرق بين ماضٍ ولّى، ومستقبل آتٍ، ما دام الاثنان لا يأتيان إلا بما هو مؤلمٌ، ومؤذٍ، وفاجِع. فهو نموذجٌ يستوي لديه ما مضى، وما هو كائنٌ، وما سوف يكون. أما القصيدةُ التي نجد فيها واحدةً من غُرره، ونوادره، فهي التي بعنوان (ثوبُ أمّي). وقد قرأنا هذه القصيدة، وفي أذهاننا قصيدةٌ أخْرى لمريد البرغوثي، عنوانها « رنينُ الإبْرة (3) « 1993 وهذا لا يعني – بالطَبْع - أنَّ القصيدتين متشابهتان. أو أن السعافين تأثر بقصيدة البرغوثي. فالذي يجمع بين القصيديتين هو المناخ الجمالي الذي يُهْيمنُ على المتكلم فيهما بتأمُّله خيوط التطريز، في الثوْب الملائكيّ، ويتذكَّرُ تلك الإبر التي شغلتْهُ غرْزة غرْزة. ويتذكر الألوان، والأطياف، والحرير، وأغاني الصبايا؛ فالقصيدة لدى السعافين صورةٌ مليئة بالجماليات التي تُغْني لغة الشعر كما هي لدى مريد البرغوثي:
أطالعُ وجها توضأ بالنور/ يا وجْهَ أمي/ ويا شعرها كالشعاع البهيّ/ يطول، فيحرسُه شالُها الأبيضُ المجْدليّ/ يرفّ على ثوبها الملكيّ/ الذي طرّزته أغاني الصبايا/ وجوْق كراتِ الحرير/ مئاتُ الإبر/ به من طيوفِ الشُعاع/ وما ندَّ من أرْض كنعانَ/ من شجَرٍ عاشِقِ وزَهَرْ (ص77)
 كَسْرُ النمَط
وعلى ما في هذه الصورة المركبة من جماليّات، فقد انتهى بها الشاعر السعافين إلى نهاية حادَّة، مُنْكَسِرة. فلم يعد هذا الجمالُ الذي يَعُزُّ على الوصف، متاحًا مبْذولا، لا في أحلامنا ورؤانا، ولا حتى أمام أبصارنا، بل نحنُ نتوقُ لرؤيته بعد أن اختفى، واحتجب، لأسباب لا يحيط بها توصيف، ولا يحصرُها تعريف. لذا تنْتَهي هذه الرؤيا الجمالية بانكسار النمَط، وحلول الفجيعة التي تحوِّلُ الواقعَ المندثرَ إلى توْقٍ يُؤرِّق الشاعر:
متى ينشر الثوبُ أحلامه/ في عيون الدوالي/ وتسرْحُ فيه رفوفُ الصبايا/ وتعْشقُه الأرضُ/ عِشْقَ المطرْ  (ص78)
 كلمة أخيرة :
صفوة القوْل، وزبدَةُ الحديث، هي أنَّ السعافين، الذي سبَقَ له أن أصدر عددًا من الدواوين، كأفق الخيول(4)، وحوار الحكايات، و فتنة الناي، و هذا الديوان « مقامُ النخيل «، يواصلُ مشروعه الشعري، بخطى ثابتةٍ، راسخَةٍ. فهو على عنايته بأصالةِ ملفوظهِ الشعْريِّ، لا يفتأ يشقُّ لنفْسهِ طريقا يعبِّدهُ، ودرْبًا سهْلا يمهّده، نحو التجديد، متجنّبًا التقْليد والترديد. وعدَّته في ذلك كله كنزٌ من الصور المجازية الباهِرَة، والتراسلات الدلالية الغامرة، والتفاعُلات اللفظيَّة الزاخِرة. علاوةً على تصوّره لجدليَّة العلاقة بين الشكل والمحتوى، وبين المعْنى والمبنى، فهما شيءٌ واحدٌ لا ينْقَسِمُ على اثنين، ولا يفترقان- أحدهما عن الآخر- افتراقَ الصِنْويْن، أو الضدَّيْن.
 
 الهوامش:
1.انظر: الرأي الثقافي، ع السبت 9 تشرين الثاني 2019
2.ينظر كتابنا من الشعر الحديث والمعاصر، ط1، عمان: دار ورد الأردنية للنشر، 2009 ص 225- 250 والفصل مستخرج من مجلة عمان ع 158 س 16 آب 2008 وقد كتب المرحوم إحسان عباس دراسة عن القصيدة القصيرة نشرت في أزمنة متباعدة جمعها عباس عبد الحليم عباس في : أوراق مبعثرة ، ط1، إربد: عالم الكتب 2006 ص ص 348- 386 وانظر كتابنا: الناقد وعالمه، ط1، عمان: دار أمواج للطباعة والنشر، 2017 ص39- 41
3.من ديوان بهذا العنوان، ط1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993 وهي في الأعمال الشعرية، ط1، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات النشر، 1997 ص 283وانظر كتابنا: حاضرُ الشعر وتحولات القصيدة، ط1، عمان: دار الآن (ناشرون وموزعون) 2016 ص ص 65- 78
4.انظر الفصل السابع من المرجع السابق ص 111- 123