Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    23-Aug-2019

جريس سماوي.. الشاعر المحتجِب

 الدستور-مجدي دعيبس

أول ما عرفنا الشاعر جريس سماوي، عرفنا صوته من خلال شاشة التلفزيون الأردني والبرنامج الصباحي (يسعد صباحك) والمبدعة الراحلة فكتوريا عميش، ذاك الصوت العميق والرخيم والمشحون بطاقة تجبر السامع على الانقياد الطوعي والتورط بهذا الحضور الطاغي الذي يحث غدة الذهول على إفراز أنزيمها إلى أقصى حد ممكن. ولعل ما أصابنا من هذا الصوت يشبه ما أصاب بشار بن برد الشاعر الضرير من استحسان لصوت تلك الجارية عندما تودد إليها ببيت الشعر المعروف عندما قال: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة  والأذن تعشق قبل العين أحيانا. في تلك النصوص التي صاغها في المكان الاردني والشخصية الأردنية كان الصوت أحد مصادر الشعريّة والإنزياح الذي أضفى عليها مسحة صوفية مذهلة.
ثم عرفناه في مهرجان جرش، تلك البوابة الثقافية التي أطل منها العمالقة على الفضاء الأردني غناء وشعرا ومسرحا، ولا أعرف إن تغير جوهر الأشياء أم هو جوهرنا الذي تبدّل وغلّف كل شيء بالكآبة التي أمست ظلنا الذي يمشي أمامنا. وزارة الثقافة كانت محطته التالية أمينا عاما ووزيرا وكان صوت الشاعر والاديب والمثقف الأردني حتى استقال وركن إلى مسقط رأسه في مدينة الفحيص بعد حياة عامة حافلة.
على أن ما تقدم ليس إلا من باب التوطئة للحديث التالي والذي ابتدأ عند أحد الأصدقاء والمتابعين للشأن الثقافي، وعند استعراض اسماء الشعراء على الساحة الأردنية تبين أن مجموعة شعرية- لن أقول يتيمة- ولكن متفردة صدرت للشاعر جريس سماوي. وعند انتهاء الجلسة هرعت إلى الإنترنت حتى أتيقن من الأمر فوجدت أنها لم تكن سوى زلة واحدة فقط ولم تتكرر. 
أتذكر صدور (زلة أخرى للحكمة) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2004 وهو عنوان المجموعة؛ لأنني حرصت على الحصول عليها حال نزولها إلى الأسواق فوجدتها من الشعر الجميل الذي استحق نسبه بجدارة. كما أتذكر صدورها بوضوح بسبب تلك الأمسية الشعرية الجميلة في المركز الثقافي الملكي حيث قرأ الشاعر بعض قصائده بصوته المعهود ورافقه الفنان صخر حتر بانغام عوده الشجية فكانت ليلة من ليالي الشعر التي لا تنسى. ولعل الحضور اللافت والذي حطم كل معايير جمهور الندوات الشعرية كان أحد أسباب النجاح المؤزر، فشفى غليلي من تلك المرات التي كنت فيها أتلفت حولي فلا أجد سوى المقاعد الشاغرة. ولا أقول هذا عن طرافة ولا عن تجنٍ وإنما هي حقيقة وياللأسف، فإن مجاميع جمهور الشعر في كل الأمسيات التي حضرتها- وهي ليست قليلة- لا يوازي جمهور افتتاح فرع جديد (للماكدونلدز).
ولست متأكدا مما نحن بصدده؛ أهو عزوف عن الشعر أم عزوف عن نشر الشعر؟ لعل الشاعر قد أخذ بمذهب السابقين عندما قالوا: لو أن فلانا قال ذلك البيت او تلك القصيدة وصمت لكان أشعر الناس. ولكن كان هذا من باب كيل المديح لقصيدة ما أعجبت الناقد أو المتذوق لدرجة الافتتان فأطلق حكمه الذي لا يخلو من القسوة والجحود، وهو بالأساس لم يقصد من قوله هذا سوى أن هذه القصيدة – برأيه- أجود من غيرها، على أن هذا لا ينفي اشتمال باقي القصائد على درجة من الجودة الفنية والذوق الرفيع. لا شك أن (زلة أخرى للحكمة) تشتمل على قصائد عالية قد لا تتكرر ولكن كما قالوا: (للشعر شيطان لا يمل الشيطنة)، فلا أظن أن هذا التعليل قد أصاب الحقيقة لان الخط الشعري موجود وكذلك الحس والرؤية التي تمنح الشاعر شخصية محددة من خلال المواضيع التي يختارها وأسلوب المعالجة والخيال والمفردات والصور والتركيب مما يجعل من القصيدة الباهية أمرا سلسلا ومتكررا. 
ولعله – الشاعر-  في اجتهاد آخر قد سلك مسلك شعراء الحوليات وأمسى من عبيد الشعر فعكف على قصائده بالتهذيب والتشذيب حتى باتت على سوية واحدة من البنيان اللغوي والصور الفريدة والتركيب المتماسك. فإن كانت هذه علة الشاعر فقد مضى خمسة عشر حولا على الزلة الأخيرة وقد آن الآوان لزلة أخرى، وبناءً على ما تقدم فالشاعر مدين لنا بخمس عشرة حولية لا نسامحه بها أبد الدهر.
في العام 2005 نشرت الصحف خبر حادثة السطو على إحدى قصائد الشاعر جريس سماوي، فقد قدّم جزائري قصيدة (ماشا وأغنية الغجري) لإحدى مسابقات الشعر بالجزائر ونسبها لنفسه، لكن اللجنة فضحته وكشفت الأمر. وهي قصيدة مطولة من شعر التفعيلة كباقي قصائد المجموعة وأعدها من أجمل القصائد وسترتبط بالشاعر كما ارتبط (إذا الشعب يوما أراد الحياة  فلا بد أن يستجيب القدر) بالشّابي وربما كانت موسيقى بحر المتقارب من أسباب ذلك. وقد أثارني هذا الأمر بداية، ليس سخطا على السارق مع أنه يستحق اكثر من السخط، ولكن فضولا لمعرفة سبب اختياره لهذه القصيدة، وعندما عدت إليها وقرأتها من جديد أدركت أنه -أي السارق- على درجة عالية من الذائقة الأدبية وأنه عرف فرس السبق وتخيّرها دون غيرها وفيما يبدو أنه قد أخذ بالمثل القائل: (إذا عشقتْ، اعشق قمر وإذا سرقت اسرق جمل). 
سأورد القصيدة هنا معلقا على بعض أجزائها لعدة أسباب؛ الأول لشدة إعجابي بها والثاني لتحريض الشاعر على اصدار مجموعة جديدة والثالث حتى يستشف القارىء الذي لم يطّلع على (زلة أخرى للحكمة) أجواء قصائد المجموعة ومناخاتها. القصيدة ترصد حياة الغجر وتجوالهم المستمر وقد تبدو في ظاهرها وكأنها تمجيد للحياة البوهيمية التي يعيشها الغجر ولكنها في الجوهر غير ذلك. هي قصيدة تتحدث عن الحب والبحر والإخلاص والسعادة. بيّنت القصيدة في أكثر من موضع أن الغجر هم أسعد الناس لأنهم الأقرب إلى الأرض والأقرب إلى السماء في الوقت ذاته، يأكلون ويرقصون وينامون معا. لم أسمع عن غجري أصيب بالاكتئاب. كيف له ذلك؟ وهو يرقب الشمس وهي تصعد من خلف التلة المجاورة ويتنسم هواء البحر المنعش ويسرّح نظره في السهول الممتدة ويستلقي على ظهره ثم يصحو ليشوي سمكة اصطادها من النهر. نحن الذين تركنا حياة البداءة وابتعدنا عن الطبيعة حتى أصبحنا كالغرباء في حضنها، نحن التعساء، أما هؤلاء فهم رعاة الفرح وأبناء الشمس والقمر والحياة.    
سأتبع ماشا إلى آخر الأرض/أرقب مشيتها/ وهي تمضي إلى البحر/ أعزف لحني البدائي في خفة/ خلفها/ وأداري به وحشتي وضياعي/ سأشعل قلبي/ لكي أتهجى خطاها/ وأهجر من أجلها/ متعتي ومتاعي/ انا سارق الخيل ليلا/ وسائسها/ ومدجنها في المراعي/ بقيثارتي سوف أسحر كل/ الثعابين/ أرقص مثل عريس من الجن/ منتشيا/ وأغني لـ «ماشا» الجميلة/ وهي تسير إلى البحر/ حيث الهواء كسول/ وحيث المدى قاربي وشراعي/ هناك../ أقيم خباء شفيفا/ وأنسجه من حرير القمر/ وأهدي لـ «ماشا» الأميرة/ ياقوتة وجوادا/ وأمضي بها في المساء إلى خيمتي/ خيمتي من هواء/ وبيتي غبار السفر/ هناك أبيت/ بلا مسكن أو سرير/ فلا ينبغي لأمير الغجر/ وفارس تجوالهم/ ان ينام ولو ليلة/ تحت سقف من الطين/ او تحت ظل الحجر/ لأن الذي أوجد/ الغجري المغامر في البدء/ أوصاه أن لا يقيم بيوتا/ لأن الفضاء له مسكن/ ولأن العراء له مذود/ وكفن/ هناك.. سأفرش أحلام روحي/ العصية كالنار/ أرمي لـ «ماشا» عباءة روحي/ لكي تستريح/ هناك أعلق نجم السماء البعيد/ لها حارسا/ كي تنام/ وأوقف بين يديها الندى حارسا/ والضياء على بابها كالمريد/ وأربط ظبي المسرات/ من قرنها العاج/ كي لا يشيح/ هناك.. هناك/ أمسد سود جدائلها بيدي/ وتغفو على كتفي/ حين أرمي عباءة قلبي/ لكي تستريح/ خذيني إلى البحر «ماشا»/ خذيني إلى ملكوت الطواف/ الذي ليس يفضي إلى غاية/ واصنعي لي حساء لنأكل/ طاردت بالأمس ديكا وأرنبتين/ وأحضرتها وأنا في طريق القرى/ وغافلت بائع خمر بمنعطف السوق/ ثم سلبته قارورة من نبيذ/ وخبأتها في قميصي/ سأحتطب الآن/ ثم أهيء نارا/ أعدي لنا الديك «ماشا»/ أعديه ثم اصنعيه حساء/ لناكل، نشرب/ ثم ننام معا/ ننام بلا مسكن أو سرير/ فلا ينبغي لشتيتين مثلنا/ أن يقطنا منزلا أو سكن/ لأن الذي أوجد/ الغجري المغامر في البدء/ أوصاه/ أن لا يقيم بيوتا/ فكل البيوت وطن.            
وفي الختام لا أقول سوى أنني متيقن أن الشاعر جريس سماوي لديه ماشا ثانية وثالثة وأنه يحفظ كل أغاني وأناشيد الغجر بما يكفي لإصدار ثلاث مجموعات شعرية ولكن هناك علة لا ندركها ويظل المعنى في صدر الشاعر ولنا منه ما ظهر علينا وبان.