Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Jan-2018

فاتحة الكلام للعام الجديد: عن المهندس والفنان التشكيلي - معاذ بني عامر
 
الغد- ابتدأتُ عامي هذا بقراءة كتاب (تجلّي الجميل) لـ "هانز جورج غادامير"، وأنا إذ استحضر هذا الكتاب هَهُنا فلكي أوطّد العلاقة بين الهندسة والفن؛ بين البُعدين المعرفي والجمالي، لغاية تخليق أفق تشاركي في الاجتماع الإنساني، بحيث لا يتم تحويل هذا الاجتماع إلى أنساق هندسية جامدة خالية من أي بُعد جمالي، أو الذهاب بعيداً في تلوين القصر قبل بنائه فقط، بل الجمع بين ما هو قوي ومتين جنباً إلى جنب المتعة والدهشة أيضاً.
وعليه، فإني أتجاوز في هذا المقام فكرة التعاون بين المهندس والفنان التشكيلي على أرض الواقع، سواء أكان في تخطيط المدن أو الشوارع أو الحدائق أو المدارس أو الكنائس أو المساجد أو المرافق العامة. إلى فكرة التشارك بين الهندسة والفن على المستوى العقلي، إذ يتعاون علمي الهندسة والجمال، في تمكين هذا العقل بطريقة تجعل من معارفه معارف جمالية، ومن جمالياته جماليات معرفية. 
إذاً، أنا أدفع –مع بداية هذا العام- باتجاه تمكين العقل تمكينا مزدوجا، يُحقّق للإنسان نمطاً داخلياً، يستطيع بموجبه إحداث إزاحات نوعية في الخارج. فهو إذ يُخطّط لبناء المدن أو أية مرافق أخرى في المجتمع، فإنه لا ينطلق من نزوةٍ عابرة، يمكنها التعمير تعميراً ناقصاً، بل من معمار داخلي مُحْكَم، يبلور أنساقاً تتعاون فيها المعارف والجماليات، تسعى إلى تخليق اجتماع إنساني يوائم بين القوة الهندسية من ناحية أو القوة المعرفية إن شئنا توسيع الدائرة، وبين النعومة الجمالية من ناحية ثانية. فاليد التي تخطّ على الورق بناية أو جسراً أو طريقاً أو مطاراً أو دورة مياه أو حديقة أو شارعاً، لا تستنطق عقل المهندس فقط، بل وعقل الفنان التشكيلي، بحيث تكون التمظهرات الخارجية للنماذج العقلية، نماذج قوية ومتينة ومتماسكة من جهة، وناعمة وسيّالة وأنيقة من جهة ثانية.
هذا من جانب، التمكين المعرفي والجمالي سواء بسواء، لكي تكون العقول أكثر قوة ورشاقة، وتكون تمظهراتها هي الأخرى في الواقع المعيش أكثر قوة ورشاقة. من جانب آخر، أؤشّر هنا على أن عملية التمكين الجمالي المعرفي لا بد أن تنحى منحيين لكي تؤتي أكلها على أكمل وجه:
1 - المنحى الفردي، فالمهندس والفنان التشكيلي؛ المتن المعرفي والدفق الجمالي، أو إن شئتم كتاب (تجلّي الجميل) لـ "غادامير" إلى جانب كتاب (حديث الطريقة) لـ"ديكارت"، أو شخصيتي "الفارابي" و"مايكل أنجلو"، يتموضعان في إنسان واحد. فالعقل الهندسي المُنظّم جزء أساسي من التكوين العقلي للفرد الواحد، كما الأمر بالنسبة للدفقات الجمالية، فهي الأخرى جزء أساسي من التكوين العقلي للفرد ذاته، بحيث يكتمل معمار البناء بشقيه المعرفي والجمالي. فروح الفنان إلى جانب القوة الهندسية، بما يجعل من عمليات مَظْهَرَة هذه (الروح/ القوة) على أرض الواقع، عمليات متناغمة ومنسجمة ومتينة، وغير مؤذية للحواس. بحيث لا نرى شارعاً متآكلاً أو دورة مياه يعوزها التصريف الصحي أو بناية شاذة أو حديقة خربة أو نفايات تزكم الأنوف أو غشًّا في تنفيذ مشروع سياحي أو اعتداء بمواد حديثة على بناء قديم...الخ.
2-    المنحى الجمعي، وهو بالضرورة استكمال للمنحى الفردي ورافد له؛ فالمهندس يعمل جنباً إلى جنب الفنان التشكيلي، الفيلسوف إلى جانب البستنجي، بما يعزّز روح الفريق، ليس أثناء إنجاز المشاريع فقط، بل وأثناء التخطيط لها أيضاً. فالتخطيط لتعبيد شارع بحاجةٍ إلى عقل هندسي يعمل ضمن فريق مع فنان تشكيلي، لكي يكون الشارع متيناً وسليما ومطابقا –من جهة- لأعلى المواصفات التي توصّل إليها العقل البشري، وينطوي –من جهة ثانية- على لمسة جمالية تشدّ النظر إليه وتجعله مثار دهشة وإعجاب لكلّ من يسير عليه من قريب أو ينظر إليه من بعيد. ولكي تكون البناية خاضعة لأعلى مواصفات الجودة والسلامة من ناحية، ولا تنطوي على حسّ ناشز فيما يتعلق بعلاقتها بغيرها من البنايات المحيطة بها، بل تنطوي على لمسة دافئة توحي للساكن فيه عن قرب أو للناظر إليها من بعيد بالدفء والحميمية...الخ.
لكن كيف لنا أن نعزّز هذين المسلكين ونجعل من العبقرية الهندسية تلتحم التحاماً حميماً مع الإبداع الجمالي، بحيث تكون مواضعات الجمال المعرفي أو المعرفة الجمالية في الاجتماع الإنساني، مواضعات تحترم الوجود الإنساني في صيغتيه المتينة والمدهشة؟
أنا أقول بالانتقال من طور (الأنانيـة) إلى طور (الفردانيـة)؛ فالأول منزع سيكولوجي صغير، والثاني مطمح أنطولوجي كبير. الأول يسعى إلى الاستئثار بكلّ شيء، لذا تنطبع مشاريعه المُنفذّة في الواقع على نقصٍ فادح نظراً للنقص المبدئي الفادح في ذهنه. فهو إذ يُنفّذ شارعاً ويتآكل هذا الشارع بعد مدّة قصيرة من الزمن، فليس لأنه غشّاش يسعى إلى تحقيق مكاسب شخصية فقط، بل لأن ثمة تآكلاً في عقله ابتداءً أيضاً. والثاني يسعى إلى التشارك مع الآخرين في إنجاز المشروع الحضاري، فالمهندس أو الفنان ليس قرن الثور الذي يستند عليه كوكب الأرض، بما يجعل من مصالحه الشخصية في المقدمة ومصالح الآخرين في المؤخرة. بل هو شريك حقيقي في بلورة مشاريع مشتركة مع الآخرين، على اعتبار التكاملية في تخليق معمار أي مشروع، صغيراً كان أم كبيرا. فهو إذ يضع مخططا على سبيل المثال، غيره يضع مخططا لتمثال أو مسودة للوحة أو تصوّراً لشجرة زينة... بما يردم الفجوات بين الكُتل الإبداعية المختلفة، ويجعل منها مصفوفة متينة معرفياً، ومدهشة جمالياً. فالمدن والشوارع والحدائق والأندية الليلية والعواكس ودورات المياه والمحال التجارية والأرصفة وممرات المشاه واللوحات الإعلانية والمقاعد والبنايات وأعمدة الإنارة والمنحوتات، تنتظم إلى جانب بعضها البعض كمنمنمة متماسكة من جهة وبديعة من جهة ثانية. بما يعكس البنية الداخلية التي عملت على بلورة هذه المنمنمة وحولتها إلى مأثرة في الاجتماع الإنساني.