Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Apr-2021

فوكو في تونس و«فجر ضمير» الثقافة الغربية

 القدس العربي-محمد سامي الكيال

أثارت شهادة الكاتب الفرنسي – الأمريكي غاي سورمان عن سلوك ميشيل فوكو، أثناء إقامته في تونس، كثيراً من ردود الفعل، كما هو متوقع. وبالتأكيد فإن الصورة التي رسمها عن واحد من أشهر مفكري الغرب، وأكثرهم تأثيراً، بوصفه مفترساً جنسياً، يستدرج الأطفال العرب القُصّر، لينتهكهم في مقبرة قرية عالمثالثية بائسة، مثيرة لكل الخيالات والأمزجة والحساسيات الثقافية والأخلاقية المعاصرة. قصة كهذه صيغت لتصبح حدثاً.
لا يعني الانتباه إلى عناصر الإثارة في سرد سورمان، تكذيب شهادته أو تصديقها، خاصة أن التحقق من اتهاماته ليس مستحيلاً، والقرية التونسية، التي ذكرها، ما تزال موجودة، وبالتأكيد يتذكّر كثير من أهاليها، خاصةً من كانوا أطفالاً في الستينيات، ما الذي كان يفعله الأستاذ الفرنسي، أثناء وجوده بينهم، فأشياء كهذه لا يمكن أن تبقى سراً في قرية عربية صغيرة. المهم هنا ليس الوقائع التاريخية، بل مفاهيم وتصورات الحاضر، التي تجعل من انفجار «فضيحة» كهذه، قضية ثقافية تستحق النقاش، وتتداخل مع كل المجالات السياسية والثقافية والأيديولوجية.
الدعوى الأساسية لسورمان، أن الزمن تغيّر، وليس القانون أو الأخلاق، فصوت الضحايا بات يصل إلى العالم، ولم تعد الموهبة أو الإبداع يعطيان حصانةً لحائزيهما، في انتهاكاتهم للآخرين، وذلك بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وتبدّل مواقف البشر، الذين لم يعودوا يميلون عفوياً لمصلحة الأقوياء والمميزين، إنه بالتأكيد فجرٌ للضمير، أشرق على الثقافة الغربية مؤخراً، إذا نسجنا على منوال سورمان، الذي يؤدي منطقه نفسه إلى إدانته بقسوة: لماذا لم يبلغ الشرطة حينها عمّا يعرفه، ما دامت الأخلاق والقوانين لم تتغيّر؟ أم أنه ينسب نفسه إلى فئة الضحايا، الذين فُرض عليهم الصمت آنذاك؟ مع العلم أنه مثقف غربي أبيض، أي أنه أيضاً من فئة أصحاب الامتياز، حسب التصنيف الشائع اليوم، ولم يكن سيواجه ما هو أكثر من حملة إعلامية من أنصار فوكو ومحبيه في الوسط الثقافي الفرنسي، قد تؤثر على مستقبله المهني وقد لا تؤثر، خاصةً أن فوكو في نهاية الستينيات لم يكن قد امتلك كل النفوذ المعنوي، الذي ناله في ما بعد، وبكل الأحوال فإن كل ما كان سيتعرّض له سورمان يبقى ثمناً بخساً أمام حماية الأطفال من الانتهاك. يمكن إذن إدانة صاحب الشهادة بوصفه متواطئاً أو جباناً، وفق طرحه الأخلاقي ذاته.
وبعيداً عن محاكمة سورمان أخلاقياً لا بدّ من فحص دعواه نفسها: هل ما يحدث في عصرنا هو ترميم لنظام الأخلاق، الذي تم تعطيله طويلاً بفعل نفوذ وامتيازات البعض؟ وهل يستعيد «الضحايا» أصوتهم الآن فعلاً بعد طول صمت؟ وما علاقة ارستقراطية الموهبة والإبداع بالتهرّب من أخلاق السلطة والعوام؟
 
قلب هرم الامتياز
 
أحد أهم الظواهر، التي برزت مع «قضية فوكو» هذه، عودة كثيرين إلى مبدأ التحقق من الاتهامات وتدقيقها، الذي ضعف لحد كبير في الفضائح الأخلاقية، التي انفجرت في السنوات الأخيرة، خاصةً عقب صياغة شعار «أنا أصدّق الضحايا» الذي يقوم على مبدأ أن الفئات ذات الامتياز تمتلك قدرة بنيوية على ارتكاب الانتهاكات ضد الفئات الأضعف، والتملّص من عواقبها، ولذلك يجب إلقاء عبء الإثبات عليها، وليس على الضحايا، في قلب مثير للاهتمام لقرينة البراءة، ومبدأ «البيّنة على من ادعى». هذا الانعطاف في التفكير القانوني له أبعاد سياسية واضحة، فمن خلاله يمكن خلخلة هيمنة أصحاب الامتياز على الحيز العام، وجعلهم في موضع الدفاع، وإجبارهم على الحذر الشديد لدى استخدام سلطتهم، وربما إسقاط الطاقم القديم والمترسّخ منهم، لحساب بروز نخب جديدة، من الفئات التي تُصنّف «ضعيفة». هكذا يتم استخدام فضائح التحرش والعنصرية، لقلب هرم الامتياز، أو بالأصح لتأسيس هرم جديد.
الطريف أن هذا النمط من التفكير، الذي يمكن تتبّع انتشاره عالمياً، انطلاقاً من الولايات المتحدة، يبدو مقتبساً بشكل كامل من الممارسات العنصرية للشرطة الأمريكية: أن تكون شخصاً منحدراً من حي فقير، ومهمّش عرقياً، ترتفع فيه نسبة الجريمة، يكفي وحده لجعلك دائماً تحت الاشتباه، ومعرّضاً للزج في السجون الأمريكية، إلى جانب أبناء جلدتك. ما يفعله الأخلاقيون الجدد هو تحويل هذه الممارسة نحو الأعلى، فيصبح كل من ينتمي إلى فئة، تُصنّف بأنها ذات امتياز، مشتبهاً فيه، نظراً لموقعه الاجتماعي، والانتهاكات التاريخية لهويته.
إلا أن ميل كثيرين للتشكيك باتهامات سورمان، يكشف جوانب مهمة من تناقض هذا المنظور: من الصحيح أن الكاتب الفرنسي – الأمريكي ليس من ضحايا فوكو أنفسهم، إلا أن الأخير كان صاحب امتياز كبير في تونس، فهو قادم من البلد المٌستعمر سابقاً للشمال الافريقي، وأستاذ جامعي ثري للغاية، بالنسبة لمستوى حياة أبناء الريف التونسي، كان آنذاك يمتلك شهرةً واحتراماً ثقافياً معقولين، دعك من توقيعه بياناً يطالب بعدم تجريم البيدوفيليا، وبالتالي فالأجدى تصديق التهمة الموجهة بحقه، وإلقاء «الإلغاء الثقافي» القريب من الحرمان الكنسي، عليه. لماذا علينا أن نصدق الضحايا دائماً ولا نصدق الآن صوت الضحايا، الذي حمله سورمان؟
الكلام الآنف الذكر لا قيمة قانونية أو منطقية له بالطبع، لكنه منظور معظم الحملات الأخلاقية – السياسية، التي برزت مؤخراً، ويبدو أن أنصارها تخلّوا عن تصوراتهم، وصاروا قضاة متشككين في ما يتعلّق بفوكو، ربما لاعتقادهم أنهم يستقون من أعماله كثيراً من منظوراتهم الاجتماعية والفكرية، عن السلطة والمعرفة والاستبعاد والتهميش، لدرجة أن إلغاءه ثقافياً، كما حدث لكثيرين قبله، سيهدد نمط تفكيرهم في الصميم. لكنّ هذا ليس بالتأكيد التناقض الوحيد في الأخلاقية الجديدة.
 
من الجيد العودة لأعمال فوكو المتأخرة، التي بدا فيها مهجوساً بالأسئلة الإيتيقية، خاصة أن كثيراً من الأخلاقيين الجدد يتصوّرن، كما قلنا سلفاً، أنهم يستمدون جانباً من منظوراتهم من بحوثه حول السلطة والمعرفة.
 
أين الضحايا؟
 
إظهار سورمان تعاطفه مع ضحايا فوكو، الذين مازالوا صامتين ومغيّبين حتى الآن، وميله للحديث باسمهم، حالة نموذجية في الأخلاقية الجديدة، فدائماً ما يطرح مفجرو هذا النوع من الفضائح أنفسهم بوصفهم ممثلين عن مجموعات هوية بأكملها، سواء بالانتماء العرقي أو الجنسي أو الثقافي، أو بإظهار أخلاقيتهم العالية في تفهّم معاناتها، بهذه الطريقة مثلاً استطاعت هيلاري كلينتون، المرأة الثرية ذات الامتياز، طرح نفسها في الانتخابات الأمريكية عام 2016 بوصفها ممثلة للنساء وهويتهن، بمن فيهن النساء العاملات والفقيرات والمهاجرات والمضطهدات عرقياً، في ما تنال كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي الحالي، أفضلية كونها «أول امرأة ملوّنة» في منصبها، مدعيةً بهذا، وهي المنحدرة من عائلة من الفئة الوسطى، لا ينقصها الامتياز، تمثيل النساء الملوّنات من الفئات الأفقر. في معظم حالات التمثيل هذه يغدو التمكين الفردي لنخب جديدة/قديمة الحل الهوياتي للمشاكل الاجتماعية العامة، التي تعاني منها مجموعات بشرية كاملة. وبذلك تبقى هذه المجموعات صامتة ومغيّبة دائماً، لأن قضيتها اختُزلت بإعادة توزيع المنافع والامتيازات داخل مجتمع النخبة.
عندما تطرح نفسك ضحيةً، ضمن نمط من السياسة والأخلاق، قائم على فردنة ما هو عام، وترجمته إلى لغة الهوية، تصبح المنافع الفردية التي ستنالها نوعاً من الغسيل الأخلاقي، لمنظومة معنيّة أساساً بترسيخ هرميتها وتراتبياتها، لا تغييرها، وعندها يغدو سؤال «أين الضحايا؟» لا معنى له، لأن عملية «التمكين» ذاتها أشبه بمبدأ التجسّد المسيحي للألوهية: «أنا، وأنا وحدي، مَن تمّ تمكيني بعد معاناة، أكون الضحايا».
أطفال تونس، الذين اغتصبهم فوكو، حسب زعم سورمان، يحضرون في خلفية خطابه مثل الأشباح، ولن يُمكّنهم أحد، فقط سورمان هو الذي حقق لنفسه شيئاً من التمكين، بفضل فضيحته.
 
سؤال الأخلاق
 
من الجيد العودة لأعمال فوكو المتأخرة، التي بدا فيها مهجوساً بالأسئلة الإيتيقية، خاصة أن كثيراً من الأخلاقيين الجدد يتصوّرن، كما قلنا سلفاً، أنهم يستمدون جانباً من منظوراتهم من بحوثه حول السلطة والمعرفة. في عدد من محاضراته الأخيرة في «كوليج دو فرانس» اعتبر فوكو أن سؤال الأخلاق مقاوم لسؤال السلطة، فإذا كانت الفلسفة الغربية، منذ سقراط، تنادي بمقولة «اعرف نفسك» وهي الطرح المعرفي حول الذوات، المؤسس للسلطة الرقابية/التقويمية، فإن الفعل الإيتيقي الأساسي ينبني على مقولة «اهتم بنفسك» أي التقنيات الجسدية – الأخلاقية للذوات، المتجهة نحو اكتساب المتعة أو الطهارة أو القداسة أو الانتماء لجماعة ما. وهو اهتمام أسقطه من الاعتبار، حسب فوكو، جانب كبير من الفكر الغربي الحديث. يبدو سؤال الأخلاقيين الجدد بالغ السلطوية، فهو يقوم بدوره على تجميع المعلومات حول الأجساد، وتعميم مبدأ «الاعتراف» بالنسبة للذوات، ومن ثم أرشفة المعرفة، الناتجة عن ذلك، واستخدامها في محاكمات عامة لسلوك البشر، في محاولة لصياغة ذوات فردية طيّعة، ومكشوفة أمام السلطة. وربما كانت استعادة أسئلة فوكو ضرورية جداً في مواجهة هذا النمط من الأخلاقية، فالمفكر الفرنسي كانت له تجربته الإيتيقية الفريدة، التي لا نعلم إلى أين قادته، لكنها تبقيه بالتأكيد أكثر أخلاقية من كل من يتهمونه أو ينزّهون سلوكه في أيامنا.
 
باحث سوري