Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    07-Oct-2019

الثقـــافــــــة والهـــويــــــــة*محمد عبد العزيز ربيع

 الدستور-يتكون كل مجتمع إنساني من أفراد وجماعات لديها لغة أو لغات للتفاهم والتواصل، وعادات وتقاليد وقيم مشتركة لتنظيم السلوكيات الفردية والجماعية والعلاقات الاجتماعية، ونظم وقوانين لتقنين عمليات التفاعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في المجتمع. إضافة إلى ذلك، يحتاج كل مجتمع إلى معتقدات ورموز تقوم بتحديد الهويات المشتركة والانتماءات الجماعية والوطنية. وتشكل هذه الأمور غير الحسية في مجموعها أهم مكونات الثقافة الوطنية التي تميز كل مجتمع إنساني عن غيره من مجتمعات أخرى.

جاء تكوين الثقافة عبر قرون عديدة من التفاعل الإنساني بين أفراد وجماعات عاشت في مكان واحد في ظل ظروف حياتية ومعيشية واقتصادية واحدة. ولقد جاء التفاعل الإنساني ضمن محيط بيئي جماعي أطلق عليه العلماء فيما بعد اسم «مجتمع»، حيث شمل التفاعل بين الناس تعاملهم مع البيئة الطبيعية، وتطوير وسائل التواصل بينهم، وتسخير وسائل الإنتاج لتوفير متطلبات الحياة من مأكل وسكن، وتطوير أنماط الإنتاج لرفع إنتاجية العامل والأرض، وتحقيق التقدم. وهذا جعل التطور الثقافي حصيلة تفاعلات اجتماعية كثيرة بين أفراد وعائلات وطوائف دينية مختلفة تواجدت معا في مجتمع واحد، ونتيجة لتراكم الخبرات المكتسبة من التفاعل مع البيئة الطبيعية والتكنولوجية أثناء القيام بعمليات إنتاج اقتصادية.
الانتماء الوطني هو انتماء لشعب وأرض ودولة، وربما أيضا لتاريخ ولغة مشتركة من خلال روابط ثقافية ورموز وطنية وتجارب وذاكرات تراثية تحدد مضمون الهوية الجماعية، ما يجعل الهوية ذات بعد ثقافي وسياسي وتاريخي في آن واحد. ولقد كان على هذا النوع من الانتماء أن ينتظر حتى قيام الدولة الوطنية وتبلور فلسفتها القومية، وتشكيل المكونات الرئيسية للثقافة الشعبية، والاعتراف بتلك المكونات رسميا كروابط جماعية ومجتمعية مشتركة، وهو ما لم يحدث إلا بعد تبلور الدولة القومية في أوروبا بدءا من أوائل القرن السادس عشر. لقد أدركت القيادة السياسية للدولة الوطنية خلال سنين نشأتها الأولى أنها بحاجة لرابطة جامعة تربط أبناء الوطن الواحد بروابط مشتركة تجعلهم يشعرون بالانتماء والولاء لوطن واحد وشعب واحد ودولة مستقلة تمثلهم وتسهر على خدمتهم، وقادرة على حمايتهم. وهذا قاد تلك الدولة إلى العمل على خلق رموز مشتركة، ورفع شعارات جذابة، وتطوير لغة مشتركة ساهمت في تعريف وتعزيز الهوية الوطنية وتحديد مكوناتها. وبالرغم من نجاح الدولة القومية عموما في فرض التجانس الثقافي داخل حدودها السياسية وعلى كافة الشعوب التي سيطرت عليها، وبلورة إطار عام للانتماء والولاء الوطني، إلاّ أنها فشلت في القضاء على الولاءات لأطر الانتماء الصغرى، وأهمها الولاءات الطائفية والدينية، ما جعل الثقافة الوطنية تتعرض باستمرار لتكرر الأزمات، خاصة في الدول التي تتصف بالتنوع الثقافي والديني، والتباين العقائدي، والتباعد الجغرافي.
من ناحية ثانية، جاء اول التحديات للتجانس الثقافي قبل نحو 5000 سنة بسبب اتساع نطاق التبادل التجاري بين التجمعات الزراعية، وقيام بعض الدول بغزو غيرها، والتوسع على حسابها، الأمر الذي جعل دور الثقافة يزداد أهمية في حياة الناس؛ فالثقافة تقوم بدور الغراء الذي يربط أعضاء المجتمع الواحد بعضهم ببعض. لذلك بدأت الثقافات تنظر إلى القوى الخارجية ليس كمصادر خطر تُهدد وجودها فحسب، وإنما أيضا كتحديات عليها أن تواجهها، وفرص يمكن استغلالها. وقد كانت الشعوب والثقافات التي نظرت إلى القوى الخارجية بوصفها تحديات وفرصاً هي الأكثرَ قدرة على التطور وتحقيق التقدم، فيما كانت الشعوب والثقافات التي نظرت إلى القوى الخارجية بوصفها مخاطر تهدد وجودها هي الأكثرَ انغلاقاً وتقوقعاً، والأقلَّ قدرة على مواجهة التحديات واغتنام الفرص، ما جعلها تتخلف عن غيرها من الشعوب. نتيجة لذلك تبلورت الثقافة بوصفها قوةً تؤدي دوراً كبيراً في تشكيل المواقف الفردية والجماعية وطرق التفكير والنظرة إلى الحياة والآخر، وتحديد الأهداف والأولويات بالنسبة للفرد والمجتمع على السواء، والتأثير في كيفية تعامل المجتمع مع التحديات الداخلية والخارجية التي تهدد وجوده وتتحدى تقاليده وقيمه ومعتقداته. إضافة إلى ذلك، يواجه كل مجتمع تحديات تأتي في صيغة حقائق علمية ونظم حياتية، وترتيبات اجتماعية واقتصادية وأدوات تكنولوجية غير مألوفة من الصعب فهمها والاستفاد منها.
يتحدث علماء الاجتماع والسياسة في العادة عن «الثقافة الوطنية» بوصفها الأداة الأهم لتوحيد الشعوب وتمكينها من الاستحواذ على «هوية وطنية» مشتركة. ومع أن معظمَ الناس الذين يعيشون في دولة واحدة يشعرون بأنهم يَنتمون لبلد واحد وشعبٍ واحد، إلا أن المجتمع القبلي كان المجتمع الوحيد الذي استطاع أن يستحوذ على ثقافةٍ واحدة ويبقى متجانساً من النواحي الاجتماعية والثقافية على مر العصور. إذ أن ظهور الملكية الخاصة للثروات وعناصر الإنتاج في عصر الزراعة قام بتعكير صفو التجانس الاجتماعي والثقافي، وتجزئة الثقافة القبلية القديمة إلى ثقافة زراعية غير متجانسة. إذ إن كون الثروة مصدر قوة، والقوة أداة للحصول على المزيد من الثروة، فإن الملكية الخاصة للثروات وعناصر الإنتاج تسببت في شعور الأثرياء بأنهم يختلفون عن الفقراء من حيث القيمُ والمواقف والتقاليد، فيما قادتهم إلى الشعور بأنهم يتميزون عن الضعفاء من حيث الذكاء وطرق التفكير والقدرة على القيادة واغتنام الفرص المتاحة. ومع انتقال المجتمعات الإنسانية من عصر الزراعة إلى عصرِ الصناعة، فإن نطاق الفوارق الطبقية اتسع، وظهرت فوارق اجتماعية ثقافية واجتماعية سياسية جديدة لم تكن مألوفة أو معروفة من قبل. وفيما تقوم الفوارق الاجتماعية الاقتصادية على تفاوت مستويات الدخل والثروة، وتقوم الفوارق الاجتماعية الثقافية على تفاوت مستويات التعليم وتنوع المعتقدات الدينية، فإن الفوارق الاجتماعية السياسية تقوم على تباين النظرة الفلسفية لكل من الفرد والجماعة للحياة والنفس والموقف من الأخر.
وعلى العموم، منذ أن ظهرت الملكية الخاصة لعناصر الإنتاج في عصر الزراعة، لم يستطع مجتمع أن يحافظ على تجانس ثقافته او وحدتها. فالمجتمع الزراعي كان يتكون من طبقتين: طبقة الاقطاعيين الثرية التي ملكت مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية الخصبة ومصادر المياه، وقامت باستغلال الفلاحين واستعباد الكثير منهم، وطبقة الفلاحين والعمال الزراعين الفقيرة التي ملكت القليل من الأراضي الزراعية، وكان عليها ان تعمل لدى الاقطاعيين. ومع ظهور الطبقية هذه لم تعد تقاليد وقيم وأحلام ومواقف أعضاء الطبقة الأولى متطابقة مع مثيلاتها لدى الطبقة الثانية. ومع أنه من الممكن ان نتحدث عن إطار ثقافي واحد يجمع في داخله مكونات المجتمع الزراعي، إلأ أنه لا يمكننا أن نتحدث عن ثقافة واحدة توحدهم. من ناحية ثانية، فيما تسببت الثورة الصناعية في تشكيل مجتمع صناعي جديد وثقافة جديدة، فإن تقدم عصر الصناعة وتنويع النشاطات الاقتصادية تسبب في تجزئة المجتمع هذا إلى ثلاث طبقات اجتماعية: طبقة الرأسماليين الأثرياء، والطبقة الوسطى التي لم تكن ثرية أو فقيرة، وطبقة عمال الصناعة الفقيرة؛ الأمر الذي جعل ثقافة المجتمع الصناعي تنقسم إلى ثلاث ثقافات فرعية يجمعها إطار ثقافي وطني واحد. وهذا ما جعل الهوية الوطنية لا تعتمد على الثقافة وحدها، وإنما تعتمد أيضا على مكونات أخرى كالتاريخ المشترك، وإيدولوجية الحكم والرموز الوطنية.
www.yazour.com