Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-Sep-2020

شرخ جديد في العلاقة بين باريس وأنقرة

 الغد-ديدييه بيّون* – (أورينت 21) 3/9/2020

 
تشهد العلاقات بين فرنسا وتركيا توتراً جديداً. وفي حين انتهت أزمات الماضي إلى انفراج، فقد أدى تراكم الخلافات طوال السنوات الأخيرة إلى تدهور سلطت الأزمة الأخيرة عليه الضوء. ويخشى أن شرخا قد حصل في العلاقة بين البلدين وسيصعب ترميمه.
توظيف تاريخي
تكمن إحدى الصعوبات المتكررة في توظيف البلدين هذه العلاقة لتحقيق أغراض سياسية داخلية، وكان ذلك حال عدد من الرؤساء الفرنسيين. وكان أكثرهم توظيفاً لها على الملأ هو الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في إطار سعيه لاستقطاب أصوات اليمين المتطرف. وقد تبنى المواضيع المعادية لتركيا مثل “المبادئ” القومية ومعاداة الإسلام. وفي تركيا، بالغ أردوغان من جهته في توظيف الخطاب القومي ليبرهن أن البلدان الغربية -ومنها فرنسا- تسعى إلى فرض إرادتها وتلاحق حلمها التاريخي بإذلال بلاده وفرض سيطرتها عليها.
تفاقم هذا البعد بسبب قضية إبادة الأرمن؛ حيث تبنى البرلمان الفرنسي سنة 2001 قانوناً يعترف بالإبادة الجماعية. وبعد بضع سنوات، رفض المجلس التأسيسي الفرنسي مرتين، في 2012 و2017، محاولات برلمانية لتجريم إنكار الإبادة الجماعية في سنة 1915. وقد استاءت السلطات التركية من هذه المبادرات السياسية التي آذنت ببداية تدهور بطيء -وإنما مؤكد- للعلاقات بين البلدين.
بطبيعة الحال، شكلت مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي الخلفية الأساسية لتبادل هذه الاتهامات. وقد أسهمت تصريحات المسؤولين الفرنسيين الرئيسيين في تغذية مناخ من الشك وعدم الثقة. وكانت ردود الفعل متعددة وعاطفية عندما كتب فاليري جيسكار ديستان، الذي كان رئيس مؤتمر مستقبل أوروبا، في مقال بجريدة “لوموند” في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2002 أن “تركيا بلد قريب من أوروبا، وهو مهم ولديه نخبة حقيقية، لكنه ليس بلداً أوروبياً”.
بعد ذلك ببضع سنوات، نادى نيكولا ساركوزي، مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بشراكة مميزة مع تركيا -عوضاً عن انضمامها التام إلى الاتحاد الأوروبي- حتى أنه أعلن في برنامج تلفزيوني: “لو كانت تركيا بلداً أوروبياً لكان ذلك معلوماً”. كما يتساءل المرء عما وراء التحليل الذي قدمه إيمانويل ماكرون في 27 آب (أغسطس) خلال مؤتمر السفراء التقليدي، حين وصف سياسة الرئيس التركي بالـ”مشروع القومي الإسلامي الذي يُقدَّم عادة على أنه معاد لأوروبا”، خاصة وأن فرنسا تدعي أنها قادرة على لعب دور جديد على الساحتين الأوروبية والدولية. وكان يجدر بالرئيس الفرنسي إعلان أنه يريد صياغة طرق بناء الاتحاد الأوروبي لتكون فرصة لتجديد العلاقة بين باريس وأنقرة. لكن إرادة ماكرون سرعان ما أثبتت محدوديتها.
نرى من خلال هذا التذكير تعدد أسباب الخلاف بين البلدين. لكن هذا الخلاف لم يتعد حتى الآن مستوى الخطاب مهما كان عدوانياً، رغم خيبات أمل بعض الشركات الفرنسية التي استُبعدت من دعوات مناقصات تركية.
تصعيد غير منتج
كما يحدث عادة في حالات التوتر المستمر، تضاعفت الخلافات من دون أن تسيطر عليها الحكومة الفرنسية أو التركية، وكان من الممكن حلها بطريقة توافقية خلال الأشهر الأخيرة. ويبرهن هذا التصعيد على الضغينة والتوجس المتبادلين بين الطرفين، وهو شأن غير منتج وغير مبرر حقاً. ولن تؤدي الشكاوى والتصريحات المبهمة أو الجارحة سوى إلى المزيد من التوتر وتفاقم الخلافات.
جوهرياً، تبدو الخلافات الآن متعددة، وتتعلق أكثر بملفات جيوسياسية مثل قضية الأكراد في سورية و(الناتو) وليبيا وشرق المتوسط. وتطول اللائحة التي تشير إلى شراكات متنافسة. ويبدو أن التصعيد والمواجهة المباشرة طاغيان في كل ملف على إرادة التوصل إلى توافق دبلوماسي وسياسي. وعلى سبيل المثال، نذكر ما قاله ماكرون في حوار له مع مجلة “الإيكونوميست” في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، عندما اعتبر أن الـ(ناتو) حالياً في حالة “موت دماغي” بعد عجزه عن رد الفعل على العملية العسكرية التركية في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 ضد مواقع كردية تابعة للمجموعات المسلحة لحزب الاتحاد الديمقراطي في شمال سورية. وكان جواب أردوغان: “عليك بفحص موتك الدماغي”.
هكذا أصبح انعدام التفاهم بين فرنسا وتركيا واضحاً، وتجسد في رفض كل منهما فهم منطق نظيره؛ حيث تطغى على الموقف رؤيتان إيديولوجيتان متضاربتان أسفرتا عن انسداد الأفق.
في الملف الكردي، ترى باريس أن عناصر حزب الاتحاد الديمقراطي ينتمون إلى “مقاتلي الحرية”، وهم بذلك حلفاء لفرنسا لأنهم قاتلوا تنظيم “داعش” على الأرض وبنجاعة. لكن أنقرة وجزءاً كبيراً من الرأي العام التركي يعتبرونهم أولاً وقبل كل شيء النسخة السورية لحزب العمال الكردستاني الموصوم بالإرهاب (كما هو الحال في باريس). ولذلك ترفض تركيا بشكل قاطع أن يتمتع حزب الاتحاد الديمقراطي بإقليم حكم ذاتي على الحدود التركية السورية.
زاد الوضع الفوضوي في سورية، الذي نجحت تركيا من خلاله في استعادة مكانتها السياسية بمشاركتها في “مجموعة أستانة” في تعميق هذه المفارقة، بينما أصبحت فرنسا مجرد مراقب للأوضاع هناك، بلا قدرة على لعب دور في حل هذا النزاع.
والأمور أكثر تعقيداً في ليبيا؛ حيث كادت المواجهة البحرية بين السفن الفرنسية والتركية في حزيران (يونيو) 2020 أن تؤول إلى ما لا تحمد عقباه. وقد تفسر سلسلة الأخطاء التي قامت بها فرنسا في الملف الليبي عدوانية الرئيس ماكرون، وكان اتهامه لتركيا بإرادة التوسع طريقة سهلة ليبرئ نفسه. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف لبلد عضو في مجلس أمن الأمم المتحدة أن لا يساند حكومة السراج التي تعترف بها الأمم المتحدة، بل أن يدعم تمرد المشير خليفة حفتر. مهما كان قصدها من وراء ذلك، يجب الاعتراف بأن تركيا أسهمت في إنقاذ الحكومة التي يعتبرها المجتمع الدولي شرعية.
وتزيد شراكات البلدين من هذا التوتر، بسبب رهانات التأثير على الوضع الإقليمي. ومن بين ما تعكسه خلافات الملف الليبي رهانات اكتشاف واستغلال موارد المحروقات في شرق المتوسط. وهو ليس بالقضية الحديثة، لكنها شهدت مؤخرا تحولات تبعث على القلق. ومع انقلاب ميزان القوى في ليبيا، قرر ماكرون أن يستعرض القوة العسكرية الفرنسية لمساندة اليونان والقبرصيين اليونانيين. لكنه لم ينجح في تعبئة الاتحاد الأوروبي، خاصة وأن ألمانيا رفضت التصعيد وآثرت محاولات الوساطة السياسية.
إعادة تقييم عاجلة
صحيح أن الخطاب القومي والعدواني لأردوغان في غير محله، لكن ذلك لا يجب أن يسفر عن التفكير بمنطق متضارب. أولاً، لا يمكن التصرف وكأنه تم حل الملف القبرصي، فالحال ليس كذلك. صحيح أن لانضمام قبرص إلى الاتحاد الأوروبي في 2004 واقعا قانونيا، لكن ذلك لا يعني أن له واقعا سياسياً، فالجزيرة ما تزال عملياً مقسمة إلى جزأين. وهو ما يجعل الاتحاد الأوروبي غير قادر على المشاركة بطريقة إيجابية في حل هذا الملف، بما أنه حكم ومحكوم في الوقت نفسه.
وفي مسألة تحديد الجرف القاري والمياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، يكفي أن ينظر المرء إلى الخريطة ليقتنع بأن القانون الدولي البحري يحتاج إلى تهيئة خاصة حتى لا يصبح بحر إيجة والمنطقة البحرية الجنوبية لتركيا بحيرة يونانية. ولذلك، لا فائدة في التصعيد ولا في دبلوماسية طبول الحرب. وحدها مناقشات حقيقية قادرة على حل هذه النزاعات الشائكة هي التي ستفيد.
 
*المدير المساعد في معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS)