Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    27-Sep-2019

الشاعر التونسي محمد الخالدي: العرب يجهلون حضارة ثلثي البشرية

 الدستور-عمر أبو الهيجاء

«صحيح أنني بدأت شاعرًا. لكن اهتماماتي كانت تتجاوز الشعر إلى مجالات أخرى كالأنتروبولوجيا وتاريخ الأديان وعلم الآثار»، هذا ما ذهب إليه الشاعر التونسي محمد الخالدي، مؤكدا بأن المكان هو الذي يسكننا لا الذي نقيم فيه. وبحكم سنوات الغربة الطويلة، ظلت علاقتي بالمكان قلقة، وكما يرى أن كل إبداع حقيقي قادر على المقاومة. أما العنتريات الجوفاء فهي التخلف في أبشع مظاهره. وقد سقط الكثير من الشعراء في هذا المطب.
أثناء مشاركته في مهرجان جرش للثقافة الفنون 2019 التقينا الشاعر الخالدي المتعدد الإبداعات وحاورناه حول تجربته الشعرية وحول تنوعه الكتابي وقضايا فكرية وثقافية أخرى فكان هذا الحوار:
* في حياة أي شاعر أو أديب تعدّ الطفولة محورًا أساسيا ومركزيا. ماذا عن طفولة الشاعر محمد الخالدي؟
- الطفولة تيمة مركزية في كتاباتي الشعرية منها والسردية. وهي مرتبطة عندي بالمكان، أي بمسقط الرأس بكل مفرداته من تضاريس ونباتات وحيوانات وأساطير. وقد أفردت لها عملين هما: «وطن الشاعر» وهي مجموعة شعرية، و»ما تجلوه الذاكرة ما لا يمحوه النسيان» وهي سيرة أقرّ كل من أطّلع عليها بأنها عمل متفرّد لخروجها عن السائد والمألوف في كتابة السيرة. إن الطفولة تدهمنا كلما نأينا عنها ولذلك فهي مصدر إلهام لا ينضب. ومن هنا اهتمام الكتّاب الغربيين بها، منهم من كرّس لها كتاباته كلها.
* الشاعر محمد الخالدي يكتب في أكثر من جنس أدبي: الشعر، الرّواية، السيرة، وهو إلى ذلك مترجم، إلى جانب اهتمامك بالتصوّف والديانات الشرقية مثل البوذية والهندوسية والطاوية... هذا التنوع ماذا أثمر في شجرة إبداعك؟
- يعود التنوّع الذي أشرت إليه إلى تكويني، وأعني هنا مصادري الثقافية تحديدًا. فالذين قرأت لهم في شبابي المبكر من الفرنسيين أو الكتاب المترجمين إلى الفرنسية كانوا يجمعون بين أجناس متعدّدة للكتابة. ومن هنا تعدّد اهتماماتي. وهو أمر طبيعي في رأيي. على عكس ما هو سائد في أوساطنا الأدبية عندنا إذ هناك طلاق بين الأشكال التعبيرية.
أما اهتمامي بالديانات والفلسفات الشرقية فقد دفعني إليه اهتمامي بالتصوف الإسلامي الذي كان مجرّد موضة آنذاك يستعرضها بعض الشعراء كما أوضحت ذلك في كتابي: «الإبداع والتجربة الرّوحية». وعند انتقالي للإقامة في جينيف تعمقت في دراسة جوانب من الحضارات الشرقية لأكتشف بأننا نجهل حضارة ثلثي البشرية. وكان لذلك أبلغ الأثر في تجرتبتي الحياتية والإبداعية. وقد انعكس، بالطبع على كتاباتي الشعرية منها والسردية. لقد سعيت دائما إلى إثراء معارفي وتنويعها، وقد انعكس ذلك على كتاباتي بشكل أو بآخر. فأنت عندما تقرأ قصيدة مثلا يمكن، من خلال تفكيكها وإعادتها إلى جذورها الأولى معرفة مصادر الشاعر وبالتالي ثقافته. ولو تصفّحنا المدوّنة العالمية للشعر للاحظنا أنّ كبار الشعراء كانوا أيضا مثقفين كبارا. ولذلك أستغرب من شاعر لا يقرأ إلا الشعر، وربّما لهذا السبب يعاني معظم الشعر العربي من فقر في الدم.
* عطفا على السؤال السابق، أين تموقع نفسك في هذه الأجناس الإبداعية؟
- صحيح أنني بدأت شاعرًا. لكن اهتماماتي كانت تتجاوز الشعر إلى مجالات أخرى كالأنتروبولوجيا وتاريخ الأديان وعلم الآثار، وهذا الأخير حاضر بقوة في رواياتي. وبالتالي كنت مهيّأً للخوض في تجارب رديفة للشعر، أي أنني، باختصار شاعر يكتب الرّواية والسيرة والدراسة ويمارس الترجمة وقد أجرّب المسرح في يوم من الأيّام. فالشاعر هو الوحيد من بين المبدعين القابل للتحويل إذا جاز التعبير.
إنّ الأجناس الأدبية يتغذى بعضها من بعض ويظهر ذلك جليًّا في أعمالي، فهناك تداخل وأقبية سريّة بين كتاباتي الشعرية والسردية، بل وحتى النصوص المترجمة، وهذا ما يجعل منها أعمالا مركّبة لا تمنح نفسها بسهولة.
* المكان وتغيير المكان، ما الذي يضيفه للشاعر؟ وأنت القائل هناك نوعان من الجغرافيا. جغرافيا طبيعية وأخرى روحية. ما المشترك بين هاتين الجغرافيتيْن.
- المكان كالطفولة يدهمنا كلما نأينا عنه، ولذلك قيل: المكان هو الذي يسكننا لا الذي نقيم فيه. وبحكم سنوات الغربة الطويلة، ظلت علاقتي بالمكان قلقة. وأعمالي كتبت تحت أكثر من سماء وفي أماكن متعدّدة. وبسبب هذا التيه فقدت الإحساس بالمكان، فاتخذت من اللغة وطنا بديلا عن الوطن المفقود، ومن هنا احتفائي وتولّهي بها. وباتساع التجربة. وجدتني أقيم في وطن أوسع ورحب رحابة الكون هو ما قصدته بجغرافيا الرّوح. ومن يقرأ أعمالي يلاحظ هذا التّيه وهذا الدّوران في الأمكنة. فرواياتي مثلا عادة ما تنطلق من مسقط رأسي لكنّ أحداثها قد تمسحُ أصقاعا نائية.
* هناك جدل مازال قائما حول هجرة بعض الشعراء إلى فضاء الرّواية. هل هذا يعني أن الشعر أصبح في أزمة. أم ماذا؟
- صحيح أن الظاهرة ملفتة للانتباه. وأن أغلب ما أصدره الشعراء – والشواعر خاصة - من روايات لا يتوفّر فيه الحد الأدنى من شروط الرّواية. وصحيح أيضا أن بعضهم فعل ذلك طمعا في جائزة تفوح منها روائح البترو-دولار. لكن هذا لا يعني أن ما يكتبه الشعراء هو أدنى مستوى ممّا يكتبه الرّوائيون من غير الشعراء. لأن العكس هو الصحيح. لكن لِمَ تثار مسأَلة كهذه عندنا نحن العرب ولا تُثار في الغرب مثلا؟ السبب في رأيي هو هذا الطلاق بين الأشكال التعبيرية. أما من يستكثر على الشعراء كتابة الرّواية ولا سيما من الجامعيّين فهم يكشفون، من حيث لا يدرون عن جهلهم بالآداب العالمية. فكبار روائي العالم هم أساسا شعراء كبار لكننا اكتفينا بترجمة مدونتهم السردية أو بعض منها وضربنا صفحًا عن شعرهم. فذهب في ظن هذا الرّهط من الروائيين والجامعيّين أن الشعر شعر والرّواية رواية ولا يجوز الجمع بينهما. إنّ الأصل هو أن يكتب الشاعر الرّواية، وقد انتبه الغربيون إلى أهمية العلاقة بين الأجناس الأدبية المختلفة، فالرّوائي لا يقتصر على كتابة الرواية وإنّما يثري عالمه ويؤثّثه بأشكال تعبيرية أخرى. وما يقال عن الرّوائي يُقال عن الشاعر أيضا.
* القصيدة بكافة أشكالها إلى أين وصل الحال بها في ظل انتشار السوشيال ميديا، هذا الفضاء المفتوح لأشباه الشعراء والكتبة؟
- شخصيًّا لا ألجأ إلى هذه الوسائل لنشر قصائدي. ولا أدري إن كنت سأفعل ذلك في يوم من الأيّام. وقد يكون إحجامي ما نقرأه من هراء يقدّمه أصحابه على أنه شعر والعياذ بالله. ولكن مهما كانت سطوة هذا الفضاء فإن الشعر الحقيقي سيظل محتفظا بمكانته. أما عن الأشكال الشعرية فهي تتجاور وتتعايش ولا يلغي، بالتالي بعضها بعضًا كما يعتقد المتعصّبون لهذا الشكل أو ذاك. فقصيدة النثر مثلا هي، في رأيي جنسٌ أدبي قائمٌ بذاته يُمكن لشاعر التفعيلة أن يمارسه كما يمارس الكتابة الرّوائية أو المسرح أو الترجمة، وليست تتويجا لمسيرته كما يعتقد بعض أنصارها، لأنّها تاريخيًّا أقدم من قصيدة التفعيلة «vers-librisme»، إذ ظهرت قبلها بحوالي نصف قرن على يد الفرنسي ألويوس برتراند قبل أن تتطوّر وتأخذ مداها على يديْ شارل بودلير.
* «الرّبيع العربي»، برأيك وأنت الشاعر والكاتب المتنوّع، هل أنتج هذا الرّبيع أدبًا يُشار إليه في المستقبل؟
- الرّبيع العربي – أتحدّث هنا عن تونس- بدأ على شكل هبة شعبية أدت إلى إسقاط رأس النظام وليس المنظومة التي عادت أكثر شراسة من ذي قبل. ولأنّ ما يسمى بالثورة كانت تفتقر إلى طليعة منظمة انقض الظلاميون القادمون من وراء البحار والمغامرون والعملاء على ما أنجزته الجماهير وجيّروه لحسابهم، هذا على المستوى السياسي. أما على المستوى الثقافي، فإن ما أفرزته «الثورة» من كتابات هو من الهزال بحيث لا يستحق الذكر ورأيي أن الوقت لم يحن بعد للكتابة عمّا سمّي بالرّبيع العربي.
* هل مازالت القصيدة أخطر من الدبابة في المقاومة؟
- كل إبداع حقيقي قادر على المقاومة. أما العنتريات الجوفاء فهي التخلف في أبشع مظاهره. وقد سقط الكثير من الشعراء في هذا المطب. وفي أحسن الحالات قد تتحوّل كتاباتهم إلى مجرّد وثيقة يشير إليها دارسو الأدب لا غير. وأرى أنّ قصيدة حبّ جميلة أفضل ألف مرّة من تلك الأطنان من الكتابات الصّارخة.
* يقال بأن النقد مازال يراوح مكانه ولم يواكب العملية الإبداعية. هل أنصف النقد تجربتك الإبداعية؟
- هذه الشكوى تتردّد كثيرًا على ألسنة المبدعين. فالنقد عندنا لا يتعدّى المتابعات السريعة التي يغلب عليها طابع المجاملات. أما النقد الأكاديمي فيقتصر أصحابه على الأسماء والتجارب المكرسة ممّا يشي بكسل معرفي واضح. أما في ما يتعلّق بي فيمكن القول بأنني محظوظ أكاديميًّا قياسًا بغيري، وقد تناول عدد لا بأس به من الدارسين تجربتي كموضوع لأطروحاتهم الجامعية في تونس وخارج تونس، بل هناك من اختص في دراسة أعمالي كالدكتور لطيف شنهي الذي أنجز أطروحتيْ ماجستير ودكتوراه تناول فيهما جوانب مختلفة من تجربتي، بما في ذلك تحوّل النص من الشعر إلى السّرد، وهو موضوع جديد كل الجدة ولم يسبق تناوله.