Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-May-2016

«حي الحجارين» لكاناليتو: المدينة مسرح بانوراميّ كبير* ابراهيم العريس

الحياة-«آمل أن تثير لوحات كاناليتو إعجابكم حين ينتهي من رسمها، أما أنا فلربما أكون أكثر تطلباً في اختياراتي، ذلك أنني من بين عشرين لوحة له، رفضت ثماني عشرة لوحة. فقد رأيت الكثير من لوحات هذا الفنان حين وصلت إلى لندن وشعرت من فوري أنني لا أود أن أعلق منها في بيتي، ولست مستعداً لدفع قرشين ثمن الواحدة منها. الحقيقة أن الرجل نهم وعصيّ على الإدراك... ولكن بما أنه نال من الشهرة ما نال، ها هم الناس يدفعون له ما يشاء ثمناً للوحاته». هذا الكلام جاء في رسالة بعث بها جامع اللوحات الإنكليزي الشهير أو. ماكسويني، إلى صديقة له في العام 1730. وهو يتناول فيها، بالنقد القاسي والرافض، أعمال الفنان الإيطالي كاناليتو، الذي كان الإنكليز، في شكل خاص، يقبلون في ذلك الحين على شراء لوحاته إلى درجة أنه بدا وكأنه لا يرسم إلا لهم. والنتيجة أنه من بين 350 لوحة أصيلة خلفها كاناليتو ورسم مدينته البندقية، في معظمها، لم يبق في هذه المدينة في أيامنا هذه سوى ثلاث لوحات، واحدة منها كان هو نفسه أهداها إلى السلطات الرسمية فيها. ومع هذا يعتبر كاناليتو أكبر فنان خلّد تلك المدينة ناشراً مناظرها الرائعة في شتى أنحاء العالم. وما زال الناس، حتى يومنا هذا، لا يعرفون البندقية في أغلب الأحيان إلا من خلال تلك اللوحات الرائعة - على رغم رأي ماكسويني - التي فصّل فيها كاناليتو، ساحات المدينة وقصورها وأسواقها الشعبية وحركة الناس فيها، في لغة فنية تتسم بواقعية مدهشة تسمى في أيامنا واقعية فوتوغرافية.
 
> مهما يكن، علينا أن نتقدم تسع سنوات، لنستمع إلى رأي آخر، يبديه هذه المرة كاتب وناقد فرنسي هو شارل دي بروس، كان أول ما يهمه أن ينعى على بلده فرنسا كون قصورها وبيوت جامعي اللوحات فيها لا تحوي أعمالاً لكاناليتو، فيقول: «إن مهنة كاناليتو الأساسية هي أن يرسم مناظر لمدينة البندقية، وهو في هذا النوع من اللوحات يتفوق على كل الفنانين. ذلك أن أسلوبه في رسم واضح، بهي، يشع بالضياء، ناهيك بدقة المنظور لديه وروعة التفاصيل (...). إن الإنكليز أدركوا هذا، منذ البداية فراحوا يطاردون أعمال هذا الفنان ويحصلون عليها، عارضين عليه أثماناً لها، ثلاثة أضعاف ما يطلب».
 
> من هنا، واضح أن هاوي الفن حين يسمع اسم كاناليتو، يستعيد على الفور في ذهنه صورة قناة من أقنية البندقية، قناة فسيحة تعلوها سماء صافية مع بعض الغيوم، ناهيك بقصور قرميدية اللون أو زهريته، وأسقف بنية تنعكس في ماء مخضوضرة. أما إذا كانت الشمس حاضرة في كل أرجاء اللوحة، فإننا يندر لنا أن نشاهدها في لوحة من لوحات كاناليتو. صحيح أن هذا الفنان لم يرسم المنظر نفسه في لوحاته كلها، لكن هذه هي الصورة الغالبة. واللافت في هذا كله أن الانطباع السريع يوحي بأن المناظر الطبيعية والمياه والجدران والأبواب وما إلى ذلك هي كل ما يرسمه كاناليتو في لوحاته، غير أن هذا الانطباع خاطئ تماماً، لأن متأمل لوحات كاناليتو عيانياً، سيفاجئه ارتفاع عدد الناس في لوحاته. فهم في بطولة جماعية غالباً موجودون في كل لوحة... وجودهم جزء أساسي من وجود المدينة وتجمّعهم يبدو غالباً جزءاً من عيدها الدائم. والحال أن من يتأمل جموع الناس الذين ينشرهم كاناليتو في معظم لوحاته سيدهشه مدى كوزموبوليتية هذه المدينة. فأهلها موجودون بكل طبقاتهم، تجاراً ومتنزهين وزبائن وأعياناً وفقراء... لكن المشارقة موجودون بكثرة أيضاً. والإنكليز والشماليون موجودون. والبيض والسود موجودون. وهي أمور حرص كاناليتو دائماً على التعبير عنها وكأنه فخور بمدينة تسع العالم كله.
 
> مهما يكن من أمر، فإن الصورة المثالية التي يمكن أن تعبر عن فن كاناليتو، وإن كانت أقل لوحاته احتفالية و «سياحية» بالتالي، ربما كانت تلك التي تحمل اسم «حي الحجارين» والموجودة في الناشنال غاليري في لندن. فهذه اللوحة التي يبلغ عرضها نحو 163 سم، وارتفاعها نحو 124 سم، تنتمي - على الأرجح - إلى فترة زمنية تقع بين العامين 1726 و1727، وهي رسمت، بالتالي، خلال ما يسمى بمرحلة الذروة في مسيرة كاناليتو الابداعية، أي تلك المرحلة التي بات الفنان متمكناً تماماً من رسم المشهد البانورامي، من خلال بنية مرتبة في شكل سيصبح لاحقاً لازمة في عمله، إضافة إلى تمكنه من التعبير عن الضوء الدافئ الموزع في شكل متوازن، مع ترك مكان فسيح للظلال. في معنى أن كاناليتو يبدو وكأنه اختصر في هذه اللوحة الجزء الأساس من فنه. وهنا قد يكون من المفيد أن نشير إلى أن كاناليتو حين كان يتدرب خلال سنواته الأولى في المهنة، في روما، كان كثيراً ما يشتغل على رسم الأطلال المنتشرة في تلك المدينة، كما نشير إلى أن عمله الأول في البندقية كان رسم الديكورات المسرحية. وهذه اللوحة تحديداً تضعنا مباشرة على تماس مع ذينك البعيدين، حتى وإن كنا نعرف أن الحجارة التي تبدو أطلالاً هنا، إنما هي في الحقيقة قطع من صخور يشتغل عليها عمال التقطيع لتحويلها مواد للبناء، وإن كنا نعرف من ناحية ثانية أن المشهد في حد ذاته لا يمكن أن يكون مسرحياً، على عكس مشاهد عدة أخرى رسمها كاناليتو وتبدو، في جلالها واتساعها، وكأنها مستقاة من عرض مسرحي. هنا تبدو الحياة في واقعيتها واضحة كل الوضوح، بل تبدو فوتوغرافية كما الحال في لوحات أخرى لكاناليتو كثيراً ما أثارت ثائرة الرومنطيقيين، وعلى رأسهم الناقد الإنكليزي جون راسكين الذي كان يرى أن كاناليتو إنما دمّر الحس الرومنطيقي بإصراره على نقل الحياة كما هي.
 
> في مقدمة اللوحة هنا، لدينا إذاً قطع الصخور، وإلى جانب المقدمة هناك الكوخ الأساس الذي يخص القاطعين. وهؤلاء موجودون هنا يقومون بعملهم منصرفين إليه تماماً، من دون أن يلقوا بالاً بالطبع إلى أي شيء يدور من حولهم. ومن حولهم هنا ليس ثمة، على أي حال، سوى الحياة العادية التي يعرفونها ويعيشونها إلى درجة لا تعود تلفت انتباههم، لكنها في الوقت نفسه حياة تلفت نظر المشاهد من الخارج، ليس لغرابتها بل لانسجامها. ثم، ولأن في المشهد الحجارة التي ستستخدم في البناء، وكذلك الأبنية نفسها - خلف القناة هناك المبنى الرائع لكاتدرائية «القديسة ماريا للبر والإحسان» -، هناك هذه الرحلة الافتراضية للحجر. وهناك مقومات الحياة التي تجعل الرحلة ممكنة. والحياة مرتبطة بالعائلة. ومن هنا لا يعود استثنائياً أن يرسم كاناليتو بضع نساء وأطفال يعيشون حياتهم اليومية. وهذا ما يحيلنا مرة أخرى إلى المسرح، ولكن من دون أن يكون مقصد الفنان أي إيحاء بهذا. فقط وضوح التكوين و «الأدوار» التي يلعبها كل واحد من الأشخاص، والمدينة في الخلفية، هذا كله هو الذي يضفي على المشهد طابعه الواقعي والمسرحي في آن معاً، ويظهر الشخصيات وكأنها كومبارس مجهول كثفت من خلاله ألوف الشخصيات، من دون أن ننسى هنا أولئك القابعين، أو العابرين، في الظل، وتحديداً في مراكب الغوندول. ومع هذا كله، فإن ليس ثمة هنا حكاية أو رسالة. فالحركة ليس لها من غرض آخر سوى ملء المكان بالبشر وإعطاء المشهد ككل طابعاً فردياً، لكل شخص فيه دوره، بحيث أن حضور كل هؤلاء الأشخاص يسمح في النهاية بالربط بين المنطقتين اللتين تتوزع إليهما اللوحة: المقدمة والخلفية.
 
> حين رسم جوفاني أنطونيو كانال (المعروف باسم كاناليتو) (1697-1768) والذي ولد في البندقية - فينيسيا - هذه اللوحة، كان في حوالى الثلاثين من عمره، وكان قد عاد منذ زمن من روما حين أحكم تدريبه على يد بعض الفنانين الكبار من أمثال بانيني وفانفيتيللي، من الذين وجّهوه صوب المشاهد البانورامية وعلموه لعبة الظل والضوء. وهو لئن ظل أميناً لتعاليمهم طوال حياته، فإنه في الحقيقة تجاوز هذا ليحقق كل تلك الرسوم التي بدلاً من أن تحوّل المسرح الذي هو اللوحة إلى حياة، حولت الحياة إلى مسرح كبير أتت اللوحات لتلتقطه في لحظاته الأكثر عادية من ناحية، والأكثر استعراضية من ناحية ثانية.