Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Dec-2018

15عامًا على رحيل الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان
الدستور - إبراهيم خليل
 
تصادف هذه الأيام الذكرى الخامسة عشرة لرحيل الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان (1917- 2003) فقد توفيت في 2003 /12/12عن عمر يقارب السادسة والثمانين. وفدوى طوقان – كما يعرف القراء- شاعرة، وكاتبةٌ ناثرة، ولها كتابان أولهما بعنوان «رحلة جبلية رحلة صعبة» 1985، الذي تروي فيه جانبًا مهمًا من سيرتها الذاتية تنتهي قبيل نكسة حزيران – يونيو 1967 والثاني بعنوان « الرحلة الأصعب « 1993، الذي تواصل فيه رواية ما تبقى من تلك السيرة. على أن لها كتابا ثالثا بعنوان « أخي إبراهيم «1946، وهو سلسلة من الذكريات، والانطباعات، والقصائد عن شقيقها الشاعر(1905- 1941) الذي وقف إلى جانبها عندما ظلمها كثيرون، فكان بمنزلة الأب، والمعلم، الصاقل لمواهبها الشعرية، والأدبية.
على أن الشاعرة، في بداياتها، غلب عليها الشعر الغنائي الوجداني التأملي، الذي يكاد يلامس تخوم التصوف تارة، وحدود التفلْسُف تارةً أخرى. وكلٌ يطغى عليه الطابع الرومانسي، لكن ديوانها الأول « وحدي مع الأيام « 1952 لا يخلو من قصائد خرجت فيها خروجًا لافتًا عن الطابع الغنائي، وغشيَ النظمَ فيها شيءٌ من المظهر السردي، ومن هذه القصائد قصيدة « لاجئة في العيد « وهي قصيدة يمكن إدراجُها في الشعر الوطني، والسياسي، والاجتماعي. فهي تخاطبُ سيدة فلسطينية وجدتها في باكورة العيد حزينة، كاسفة البال، بين الخيام، كأنها تمثالٌ متهالكٌ يجسد الشقاء تجسيدًا. فلا تضحك كالآخرين الفرحين، ولا ترتدي الثياب الجديدة، ولا تبادل العابرين- ممن تملأ وجوهَهُم إماراتُ الشعور بالسعادة - التهاني، وجل ما يبدو عليها، لمن يراها، الوجوم، والحزن، والإطْراق، كأنما تتذكر الماضي بألم (مجزوء الكامل):
أطرَقْتِ واجمة ًكأنكِ
صورةُ الألم الدفينْ
في هذه القصيدة تستخدمُ الشاعرة ضمير المخاطبة استخدامًا مطردًا، لافتًا للنظر، شأن القاص، أو الروائي، حين ينشيء حوارًا وهميًا بين الراوي وأحد شخوص الحكاية، معتمدًا تقنية سردية تنمُّ على مشاركة الراوي والمروي عليه سرْدَهُما وقائع الحدث، تقول الشاعرة في هذا السرد الشعري على لسان الراوي:
أترى ذكرتِ مباهجَ الأعْياد في يافا الجميلة
وهفَتْ بقلبكِ ذكرياتُ العيد أيامَ الطفولة
وهذه المحاورةُ، تتحوَّل- إذا ساغ التعبير- إلى استرجاع بطيءٍ لأحداثٍ، ومجرياتٍ، مرَّ عليها زمن طويل، قبل النكبة. فهي تذكرُ لنا بعض التفاصيل عن طفولة اللاجئة، وانطلاقتها فرحة بالعيد، ترتدي ثيابًا جديدةً، وعلى رأسها ربطة حمراء، وشعرها منسدلٌ على الكتفين. وهي تركضُ في مرح مع أترابها في الملاعب، وبين الأراجيح، وإذ تشعر المتكلمة بأنها استوفت الحديث عن شطر من حياة اللاجئة في ربوع الوطن السليب، تعود بنا للحظة الراهنة التي يجري فيها الحوار بين الراوي واللاجئة، لتقارن بين الأمس والحاضر في حركةٍ سرديَّة متوتِّرة:
أختاه هذا العيدُ عيدُ المترفين الهـانئين
أختاهُ لا تبكي فهذا العيدُ عيدُ الميّتينْ
يعتمد السرد في هذه القصيدة على ما يأتي:
1. الراوي
2. السيدة التي هي موضوع الحدث السردي.
3. المروي عليه، وهو أيضا اللاجئة موْضوع الحدث.
4. الزمن الماضي الذي يجري استرجاعه في صورة ذاكرة.
5. المكان الذي يقع فيه الحدث، ويجري توظيفه إطارًا لبعْض الذكريات (الملاعب، يافا، الدار، وغير ذلك)
وقد تكرَّرَ في القصيدة استخدام الشاعرة للفعل المضارع التخْييلي، فهي تروي ما جرى في الماضي لكن بصيغة الفِعْل المضارع: إذ تنطلقين، و تتراكضين، و يملأ جوكنَّ ، ويعرفُ الأعياد، و تقلِّبُه الحياة، ويضحكُ، ويهمي دموعًا، إلخ.. وذلك لأن الشاعرة تعود بنا إلى الماضي، وتُذكِّرُ اللاجئة بما مرَّت فيه، وكأنه يجري في الزمن الحالي متزامنًا مع الحوار القائم بينها وبين الراوي.
 قصيدة رقية
أما قصيدةُ رقية، فاقتربَتْ فيها الشاعرة من السرد اقترابًا أكبر، وهي قصيدة تبدو كما لو كانت نثرًا لولا الوزن، والقوافي، والبناء المقْطعي، القائم على التنويع في الرويّ، من مَقْطعٍ لآخر. وتكرِّر الشاعرةُ العناصر السردية ذاتها مع الإفراط في بعض التفاصيل التي تقتربُ بها من الحكاية.
ففي المطلع يجد القارئ مشهدًا ينْمو في نسيج دقيق، مُتْقن، يعبّر عن المكان في لحظة الغروب، واختيار هذه اللحظة التي تبدأ فيها مُتَتالياتُ الحدث اختيارٌ مناسبٌ جداً، لأن وحْشة الليل تضاعف معاناة الشخصية الرئيسة في الحكاية، وهي اللاجئة (رقية) وأضافتْ إلى هذه الوحشة تنويعاتٍ أخرى، كالريح التي تولول، والرعد الذي يجلجل، والبرق الذي يومِضُ، والظلمة البهيميَّة الدامسة، والجبل الشامخ في رهبةٍ، وسكونٍ، يسبِّبان الكثير من الخوف. وقد جاءتْ هذه التنويعاتُ في وصْف المكان مقدِّمةً لتصوير ما يحيط برقية بطلة الحكاية – إذا جاز التعبير- فهي تعيشُ في كهف غائر يطغى عليه البرد القارسُ، وتعصفُ فيه الريح، في أجواء تجمِّدُ الدماء في العروق (المتقارب):
رقية يا قصَّةً من مآسي الـــ
ـ حمى سَطَّرتها أكفُّ الغِيَر
ويا صورةً من رسوم التشرُّد
والذلِّ والصَدعـــــاتِ الأخَر
طغى القرُّ، فانطرحتْ هيكلا
شقيَّ الظلالِ شقيَّ الصُوَر
وقد يكونُ في هذا الوصف لشخصيَّة رقية، مع استعمالها لمفردة (قصَّة) ما يغني عن رسم الملامح التي نجدها عادة في القصص. فهي لا تعْمَدُ، مثلما يعمد القاصُّ، للولوج في أعماق الشخصية، وإنما تكتفي بهذا الوصف الخارجي، التقريري، المباشر، على أساس أنها لا تكتُبُ قصَّةُ، وإنما تنشئُ قصيدة، وفي القصيدة يجوز الاكتفاء بالإيحاءات، والظلال، ومع ذلك تلقي الضوءَ على شخصية أخرى تشارك رقيَّة دوْرها في الحكاية، وهي شخصية الطفل، الذي يتعلق بصدرها تَعَلُّقَ الفرْخ المهيض الجناح. وهذه الشخصيَّة، بظهورها في فضاء النصّ، تمثّلُ حافزًا يدفع بحكاية رقية دفعًا في اتجاهٍ آخر، وهو تركيز الضوء على الطفل، لأن في التركيز عليه تكثيفاً لمعاناة رقية، كونها لا تستطيع أنْ توفِّرَ له الدفءَ في هذا الجو الصقيعيِّ الذي لا يرْحم، لذا نجدهُ يتضوَّر جوعًا، وهو يبحث بيديه عن الثدي:
وغمغم أمُّ وراحتْ يداهُ
تعيثان ما بين نحرٍ وخَدْ
وفي ذِرْوة الإحساس بالحنوِّ تجاه الطفل تتخيَّر الشاعرة لحظات زمنية من الماضي، فتستعيدها في ما يشبه انثيال الذاكرة، وتدفُّق الزمن. ومن هنا تبدأ الساردةُ في استعادة المجريات، والمكان الذي طُردت منه رقيَّة، مثلما طُردت منه اللاجئة التي تشير إليها في القصيدة السابقة. وتتكرر المشاهد نفسُها: الملاعبُ الرحبة، الحانية، والأفياء الدافئة، والروضة، وظُلَّة الياسمين، والدالية، والحدائق التي تشبه الجنان.. وتختَتِمُ هذه الصور المستعادة للماضي بصدْمة التحديق في الحاضر البَشِع:
فيا دارُ ما فعلتْه الليالي
بأشيائِكِ الحلْوة الغاليهْ
تتضَمَّنُ هذه الصورُ التي استعادتْ رقيّة فيها الماضي صورةً أخرى، ألوانُها من دم الشهداء، واضواؤها من لهيب المقاومة، والثورة. فعلى الرغم من أنَّ الشعر يكتفي باللّمَحات، ولا يوغلُ في التفاصيل، إلا أن فدوى طوقان في هذه الرقعة من السرد تروي لنا ما جرى في البلاد بكلماتٍ قليلةٍ، محدَّدة، لكنها كافية: كالنفير، والجهاد، والذوْد عن الشرف، والتصدّي للعدو، والرجال الذين ينْقضّون على الأعداء انقضاضَ القدَر المتاح، ولكنَّهم، مع ذلك، لا يهابون الموتَ:
فيا للحمى، كمْ كميٍّ أبيٍّ
تجدَّلَ فيه، وكمْ أصْيدِ
أباحوا له المهَجَ الغالياتِ
وأسقوا ثراهُ دمَ الأكْبُدِ
ومن بين الذين فدوْا الوطن بدمائِهمْ، واحدٌ تملأ ذكراهُ وعْيَ رقية، ولا بدَّ لها من تذكُّره، إنه الشهيدُ، والد الطفل الذي يعاني البرد، والجوع، في كهفٍ من كُهوف الجبال. فما هي حكايتُه؟ وما قصتُه؟ سؤالٌ يحيلنا إلى تحوُّلات في سرْد القصيدة، وحافز جديدٍ يدعو الشاعرة لاستعادة صُوَرٍ أخْرى من الماضي. وفي هاتيك الصور ترسم لنا الشاعرة، التي تؤدي - ها هنا - دور الساردة، ملامح هذا الشهيد، فعلاوة على أنه نموذج للرجولة الأبيّة، والبطولة الخارقة، يشدّ على العدو شدًا، ويلاقيه، لا يبالي بأهوال الحرب، ولا بأوزارها، يواجه الموت، ويكتسحُ الهولَ أيَّ اكتساح، إلى أنْ:
تهاوى صريعًا وأرْخى على
حُطام أمانيهِ ريشَ الجناحْ
لا بدّ أن يشعر القارئ المترقِّب، المتتبِّع لخيوط السرد في القصيدة، باقترابه من الذروة. وهذه الذروة لا بد أن تعود بنا من الماضي، بما فيه من تركيز على الوطن، وبما فيه من مقاوَمة آنذاك، ومن تركيز على الشهيد، إلى حاضِر رقيّة بوصفها الموضوع الذي يحتلُّ بؤرة الحكاية، فهذه الذكرى نكأتْ جراحَها التي لم تلْتئِمْ، وقُروحَها التي لم تنْدَمِل، لذا فاضتْ روحُها بالأنين، وعيناها بالدموع، وتساءلتْ، في ما يشبه المناجاة:
متى يشتفي الثأرُ يا للضحايا
أتهدَرُ تلك الدِما الطاهرهْ
ويا للحِمى منْ يجيب النداءَ
نداءَ جراحاته النافرهْ!
وفي اللحظة التي يمتزجُ فيها الماضي بما يمثِّله من كوابيس، أو أحلام مهاجرة، تحنو على وليدها، وبدلا من أن ترضعه الحليب- كما هي العادة - تُرْضعُه سُمّا ليحتقنَ بالغَضَب، والحقد، على من قتلوا أباه، وشردوا أمه، وصادروا وطنه. وفي هذه القفلة السردية تتحول القصيدة إلى حكاية شِبْه رمزية، يتوافق فيها الواقعُ والنبوءة. فهذا النشءُ، الذي وُلد، وعاش في مخاض النكبة، ما مستقبله، إنْ لم ينشأ على المقاومة، والتصدي للمشروع الاحتلالي الصهيوني؟
فقصيدة رقيَّة، بهذا التَوْليف، حكايةٌ تتوافر لها عناصرُ القصة من زمن، ومن مكان، ومن شخوص، ومن حوادث، ومن وقائع تُروى، ومن راوٍ، ومن موقف، ومغزىً تنْتهي به، ولو أنَّ الحكاية في الشعر تختلف عن الحكاية في النثر القصصي، أو الروائي، إذ يسْمَحُ النثرُ باطّراد التفاصيل، والإطناب في الوصف، والتحليل، والتوسع في الحوار إذا اقتَضَتْ الضرورة، وذلك ما لا يحسُن في القصيدة بسبب قيود النَظْم؛ من إيقاع موسيقي، ومن وزن عروضي، ومن تتابُع في البنى المقطعية، واختلافٍ، أو تكرار في القوافي. وتبعًا لذلك، لا مناصَ من القول: إنَّ للشاعرة تجاربَ فنية في « وحْدي مع الأيام « عدَلتْ فيها عن النسق الغنائي الخالص لتجاربَ أخرى يلتحِمُ فيها، ويمتزجُ، النسقُ الغنائيُّ بالسرْديِّ، وذلك مما لا يعيبُ الشعر، ولا يُهجِّنُ النظْم.