Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    09-Oct-2018

أفكار عن طقوس الموت! - د. زيد حمزة

الراي -  لا أحد يحب الحديث عن الموت مع ان اكثر الناس يؤمنون بأنه الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة لكنهم في نفس الوقت يعتبرون مجرد الاشارة له شؤماً قد يؤدي الى مواجهته في أي لحظة! وانا لا أتحدث عنه اليوم كطبيب بل لاني مثل باقي البشر أملك عقلاً يمكن أن يفكر في شؤون الموت العادية بهدوء وبدون وجل تماماً كما يفكر في باقي شؤون الحياة اليومية، ولعل ذلك يذكرني باستغراب زملائي لتصرفي بكل برود حين دخلت معهم لاول مرة مشرحة كلية الطب وبدأت أعاين الجثة التي سوف نتعامل معها تشريحاً ودراسةً طوال عامين، وكيف قلت أمامهم في ذلك الموقف ذي الرهبة الخاصة ان هذه جثث موتى فقراء لم تحظ بالطقوس الدينية والاجتماعية التي حظيت بها جثث الآخرين كالغسل او الوضع في تابوت أنيق بالملابس او الاكفان ولم ترافقها جموع المشيعين الى المقبرة وكأن تلك الطقوس غير ضرورية من الناحية العملية باستثناء الحاجة للدفن الذي يتم حفظاً للصحة العامة والبيئة من نتائج تفسخ وتحلل الجثمان وما ينبعث منه من روائح غير مقبولة، أما البديل عن الدفن للعديد من الفقراء فهو تغطيس جثثهم في بركة الفورمالين في المشرحة، ولعل ما اوحى لي الآن بفتح هذا الموضوع هو رواية ((الموت عمل شاق)) للكاتب السوري خالد خليفة ويروي فيها رحلةمأساوية  بائسة ساخرة نَقلَ فيها ثلاثةٌ من الابناء جثمانَ والدهم بناء على وصيته من المدينة التي توفي فيها الى المدينة التي ولد فيها لكي يُدفن هناك الى جانب شقيقته، وبناء على الحاح الأخ الاصغر بضرورة احترام الوصية وافق الأخ الاكبر على القيام بهذه المهمة الغريبة بسيارته مع انه كان قد افترق عن العائلة منذ وقت بسبب خلافه مع والده نفسه، وكانت رحلة محفوفة بالمتاعب والمخاطر في ظروف الحرب الدائرة في سوريا وصعوبات الانتقال بجثة غير محفوظة عبر الحواجز الامنية والطرق غير الآمنة في مناطق مختلفة تخضع كل منها لانظمة حكومية او فوضى ميليشيات مسلحة، وبعد مرور أيام بدأت الجثة تفسد هواء السيارة بغازاتها الكريهة حتى كاد الابناء الثلاثة وبعد جدالات طويلة أن يتخلوا عن تنفيذ الوصية ويدفنوا اباهم في اي ارض خلاء لتنتهي معاناتهم الطويلة دون ان يشعروا بذنب الاساءة اليه أو اصابته بأي مكروه جديد لان جسده الميت سوف ينتهي على اي حال الى كومة من العظام !

قد يغمز البعض من جانبي بالقول إن تقدمي في العمر او تقدمي من نهايته هو ما حفزني للكتابة عن الموت لكني اؤكد باني مقتنع بهذه الآراء من زمان بعيد وأنني الآن أقضي، غيرَ محبَط ، تقاعداً مريحاً بل أجده من أسعد مراحل عمري، كما أفكر بلا مواربة وبصوت عالٍ منذ سنوات بالتبرع بجسدي بعد وفاتي لمشرحة كلية الطب أو لجمعية التبرع بالاعضاء كي تستعمل منه ما يمكن أن يفيد المرضى كالكلى او الكبد أو العينين أو الرئة لاسيما وأني حتى الآن أتمتع بصحة سليمة ولا أعاني من اي مرض، فذلك أنفع وأجدى من المصير الآخر تحت التراب أو بأي وسيلة مختلفة حيث تنتهي العلاقة بين الشخص وجسده عملياً وواقعياً عندما يفارق الحياة، ولا يبقى من الراحل فقيراً كان أو ثرياً سوى ما يترك في قلوب الناس من حب وتقدير أو ما يخلّف للبشرية من ارث فكري لا علاقة له البتة بالجسد الفاني وبكل مظاهر وتقاليد الوفاة!
وبعد.. أعرف تماماً كم هي صادمة للبعض مثل هذه الافكار حول طقوس الموت لكن أتمنى ان تكون الصدمة للوهلة الأولى فقط، وآمل ان يتضح للقارئ المنصف كم هي تأملات بسيطة وصحيحة وينبغي التمعن فيها بانفتاح ودون انحياز اجتماعي او ديني مسبق!