Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-May-2017

طقس الشاي: من جبال عجلون إلى مرتفعات الهيملايا - معاذ بني عامر
 
(أ)
الغد- مأثرة بالنسبة لسُكّان الجبال أن يُشعلوا ناراً كبيرة، لإعداد إبريق صغير من الشاي؛ فعلى هاتيك الرُبى العالية يستشعرون وجود العناصر الأربعة: 1- الماء/ 2- النار/ 3- التُراب/ 4- الهواء التي قامت عليها الحضارة الإنسانية، في مكان واحد، تتكثّف فيه تلك العناصر وتتوحّد بالإنسان في علاقة حميمية، يمنحها قدرته الوجدانية وتمنحه متعته الجسدية، كتأكيدٍ على بُعدٍ جوهراني بين الذات والعالَم:
الماء الراكد داخل إبريق الشاي بانتظار أن يبدأ بالغليان ويتهيَّأ ليكون قابلاً للتحوَّل من مادة خام إلى مادة للمتعة الإنسانية؛ النار التي تشتعل تحته وتعمل على غليان الماء؛ التراب الذي يركد عليه الإبريق؛ الريح التي تعصف بشواظ النار؛ وتجعل الماء يطشطش في الإبريق. بإزاء هذه العناصر الأربعة، ثمة عنصر خامس، يعمل جنباً إلى جنبٍ لغاية إنضاج الغاية من هذه العملية الممتعة، هو الروح البرية التي تُجلب هاتِهِ اللحظات، لاستكمال طقس التمتّع بهذه البرَكَة العظيمة، والاستلذاذ بطعم الشاي الطيب. فالمرء يتلبَّس روح البراري فتحلّ ذاته في الطبيعة كما حلّت الطبيعة في ذاته، فيركع على رُكبتيه لكي يُتمَّ طقس الشاي، كما ركعت له الطبيعة بعناصرها الأربعة؛ فالحبيبُ بإزاء الحبيبة، الذات بإزاء الطبيعة، في امتداد أفقي، جسداً لجسد، للتواصل تواصلاً إمتاعياً، يتمثّل على هيئة إبريق من الشاي، لم يكن له أن يتهيَّأ لولا تلك الحلولية الكاملة بين طرفي المعادلة الحِبّية.
(ثمة حوار ماكن بين تلميذ ومُعلِّم بوذي، يستبصرُ حدود المعرفة البشرية، سيكون الشاي حاضراً فيه بصفته بُعداً أنطولوجياً في استظهار تلك العلاقة:
ما الذي يجب عليّ أن أعرفهُ أيها المُعلِّم؟ يسأل التلميذ.
تغلي الماء؛
تنقع الشاي؛
وتشربه.
هذا كل ما يجب أن تعرفه! يُجيب المُعلّم) 
فهو صيد ثمين –أعني طقس الشاي- لنا سُكّان الجبال؛ جبال عجلون وجبال الهيملايا التي كان يسكنها ذلك المُعلّم وتلميذه، ومتعة كبيرة لطالما استمتعتُ بها من أيام طفولتي، فمحاذاة البلد الذي أسكنه ثمة جبل كُنا نسميه (جبل الزعتر) لكثرة نبتة الزعتر عليه، فعلى ذاك الجبل البهي شربتُ أولى كؤوس الشاي البرية، وتعلمتُ أن الشاي في أيام الربيع يكون لذيذاً جداً، إذا ما نُكِّهَ بنكهة الزعتر الجبلي.
(ب)
والدي كان حريصاً على الاعتناء بحوض النعناع في حديقة منزلنا، وهو من علّمنا أن الشاي المُنكّه بالنعناع في الصيف لا يضاهيه شيء في بهائه. يلذع اللسان ساعة ينزل ساخناً إلى المعدة، وفي سخونته شيءٌ من طيابة النعنع الطازج، التي تُرخي المعدة وتجعلها كسولة، فتعزلنا عن الحياة، وتجعلنا اقرب ما نكون إلى الكائنات المسرنمة.
(يوم أن مات والدي مات حوض نعناعه، لأننا أهملناه. لكننا عُدنا وأحييناه بشتلاتٍ نضرة، تبرعمت وأينعت من جديد. وآخر عهدي به قبل أسبوع إذ قرأتُ فيه وأنا أشرب الشاي الذي عودّنا والدي على صناعته، كتاب (ثلاثة أكواب من الشاي Three Cups of Tea) الذي يحكي فيه ديفيد أوليف ريلن David Oliver Relin قصة غرين مورتنسون Greg Mortenson، وهو يبدأ مشروعه العظيم في القرى المحاذية -في الباكستان- لجبل الهيملايا، بشربِ ثلاثة أكواب من الشاي. فالمشروع أشبه بحالةِ السرنمة التي خلقتها كؤوس الشاي التي اسقانيها والدي مُنكّهة بالنعناع).
 (ج)
خريفاً، عودتنا جدتي لأمي التي كنا نهرب إليها ونركن إلى حنانها الطافح، أن نشرب الشاي بالقرفة، فهو يبعث على الدفء، ويجدّد الدماء في العروق الجافة. جدتي كانت "دايةً" تُساعد النساء على الولادة، ولربما أتت نصيحتها بضرورة شرب الشاي بالقرفة من خبرتها، فالقرفة شبيهة بالدم، وقد تكون مادة استيعاضية عن الدم المفقود لحظة الولادة.
للآن، ما تزال روح جدّتي تحلّ فيّ وأنا أجلس قبالة شمس الخريف الآفلة فوق جبال عجلون العالية، وأشربُ الشاي المُنكّه بالقرفة، فالدم المسفوح من برتقالة الشمس الغاربة يحلّ في رأسي، ودم القرفة يحلّ في معدتي، فيمتزجان سوية في جسدي، فيمنحناه لذة غامرة.
(في كتابه الممتع (الحكمة القديمة والعالَم الحديث) يتحوّل "الدلاي لاما"؛ الحبر الأعظم في التيبت، إذ الجبال العالية المُحاذية للهيملايا، إلى "دايةٍ" هو الأخر، ويعمل على مساعدة الناس للتخفيف من آلامهم الوجودية، وذلك بتعزيز نظامهم الأخلاقي، والتموضع في إنسان رحماني، يتصالح مع صُغريات/ كُبريات هذا العالَم. وفي خريف ماضٍ، كان على جدّتي أن تخرج من قبرها، وتتحد حياتها مع رجل قادم من جبال الهيملايا، لكي يتأكّدا في (مبنى/ معنى) واحد، حوى بين جنبيه إبريق شاي بالقرفة ينضح بالصحة الجسدية، وكتاب بهي ينضح بالصحة الروحية).
(د)
ليالي الشتاء الطويلة اقترنت بالشاي المُنكّه بالميرمية، والحكايات الشعبية التي كانت ترويها أمي لي ولأخواتي في بيتنا القديم. كانت المزاريب تشقع بماء المطر القارح في الخارج، فنشعر بخوفٍ شديد لا يطرده إلا حديث أمي الشجي الذي ينسكب في قلوبنا الهشّة، وجرعات شاي الميرمية التي تنسكب في معداتنا النهمة.
(في روايته (ملعون دوستويفسكي) يعمل "عتيق رحيمي" على تجحيم حياة بطله "رسول" من خلال جعله يعاين ويعاني حدثاً مُشابهاً لما عاينه وعاناه راسكولينكوف بطل رواية الجريمة والعقاب لدوستويفسكي. لكن حضور الشاي خانه (أو المقهى بتعابيرنا) بصفتها مكاناً للاسترواح من هذه الفظاعة السيكولوجية، سيجعل من شاي "عتيق رحيمي" شبيهاً بالشاي الذي كُنّا نشربه في ليالي الشتاء الموجعة، فهو مُخفّف للوجع، تحديداً ذلك الوجع القادم من الأعماق).
(هـ)
في البدء - كما في الخاتمة - كان الشاي بدون نكهات، لذا يصير الطقسُ الفردي شعيرةً جماعية، ساعة ينتقل من طور النكهات إلى طور اللذعة الأصلية، فهو بإزاء الإنسان على الإطلاق، وإنْ كان التأريخ هَهُنا قد ابتدأ بسكّان الجبال وبعض النكهات.