Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    06-Apr-2018

حكم الردة سيف استله الرواة وصقله الفقهاء وتوشحه الإرهاب - د. محمد الشريفين
 
الغد- الفقيه هو المجتهد الذي يستنبط الأحكام الشرعية من مصادرها: القرآن الكريم ثم ثابت السنة النبوية، ولا يجوز بحال أن يكتسب اجتهاد الفقيه قدسية تساوي أو تفوق قدسية تلك المصادر ولا أن تحل محلها. وقد نشأت المذاهب الفقهية وتكاثرت منذ وقت مبكر من تاريخ الدولة الإسلامية، وكانت السياسة حاضنة الفقه والفقهاء في كثير من الأحيان، تؤوي إليها من تشاء وتعزل من تشاء، وقد استبدل المسلمون ما اختاره الله لهم من اسم في كتابه العزيز، بأسماء المذاهب فأصبح هذا مالكي وذاك حنفي...؛ وبذلك استبدلت خير الأمم الذي هو أدنى بالذي هو خير، قال تعالى: "مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ". استكمالا لمقالي: "لا تسفكون دماءكم"، سأتحدث عن أثر الروايات الواردة في موضوع الردة على تطبيقات الفقهاء؛ حيث سأعرض بعض النتائج التي توصلت لها في حدود اطلاعي وذلك بعد تتبع مفردات: الردة والاستتابة، وما ابتنى عليها من حكمٍ بالقتل في كتب الفقهاء من المذاهب المختلفة. وقد كانت على النحو الآتي:
المحطة الأولى: أن غالب الفقهاء قد استبعدوا القرآن الكريم في تقرير أحكامهم المتعلقة بحكم الردة؛ إذ يلاحظ أن كثيرا من الفقهاء لم يتعرضوا للآيات المؤصلة لهذا الموضوع، لا سيما قوله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)؛ وذلك تطبيقا منهم لقاعدة أن السنة تقضي على القرآن الكريم وهي القاعدة التي جعلت القرآن مصدرا فرعيا للتشريع، كما هو الحالُ باستبدال آيات الحرية الدينية التي أصلها القرآن وخالفوها استناداً إلى خبر آحاد مشكوك بنسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن بعضهم قد استندوا إلى مجرد حديث مرسل ضعيف وهو ما روي عن مولى ابن عمر "من غير دينه فاضربوا عنقه".
المحطة الثانية: الحكم بالردة شَقّا عن القلوب. وفي هذه النقطة نجدُ أن بعض الفقهاء قد بنى حكمه على بواطن القلوب استنادا إلى ما يوهم استحقاق أحدهم الردة، كالحكم على الزنادقة بالقتل بدون استتابة وبلا دليل ظاهر بل شَقّاً على القلوب، في حال أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أن نأخذ الناس على الظاهر والله يتولى السرائر، وقد جعل هؤلاء الفقهاء عفو النبي حالة خاصة به صلى الله عليه وسلم، يفهم منها وجوب القتل للمنافق، وإن لم يظهر منه ذلك اكتفاء بالشهود، ومن هؤلاء الفقهاء الذين قالوا بنحو هذا: الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، فقد روي عنه أنه قال: "النِّفَاقُ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ الزَّنْدَقَةُ فِينَا الْيَوْمُ، فَيُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ إذَا شُهِدَ عَلَيْهِ بِهَا دُونَ اسْتِتَابَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يُظْهِرُ مَا يُسْتَتَابُ مِنْهُ. وإنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين، ليُعلِّم الحكم لأمته، بأن الحاكم لا يحكم بعلمه إذا لم يُشهد على المنافقين". وقد رد الإمام الشافعي كلامَ الإمام مالك فقد روي عنه أنه قال: "السنة فيمن شُهد عليه بالزندقة فجحد -أي أنكر- أن ذلك يمنع من إراقة دمه.. فمن قال إن عقوبة الزنادقة أشد من عقوبة الكفار فقد خالف معنى الكتاب والسنة وجعل شهادة الشهود على الزنديق فوق شهادة الله على المنافقين"، وكفى بكلام الإمام الشافعي تعليقا.
المحطة الثالثة: التباين في اعتبار الفعل من نواقض الإسلام الموجبة لحد الردة عند فقهائنا.
والمقصود بنواقض الإسلام هي الأفعال التي يُـحكم على فاعلها بأنه خارج من الملة مستحق لحد الردة، والغريب أن ما عُد مذهبا ناقضا من نواقض الإسلام عده آخر من المستحبات المشروعة، والأشد غرابة وريبةً أن الحكم بالردة يُطبّق على أتباع المذاهب الأخرى، فمن ارتد وفق مذهب ما يُطبق عليه حد الردة وإن كان الفاعل على مذهب مخالف. ومن قبيل ذلك الحكم على الجاهر بالنية بالاستتابة فالقتل عند الإمام ابن تيمية وإن كان الجاهر شافعيا؛ حيث الجهر بالنية عند الشافعية مندوبٌ، وعليه يُعد بعض الشافعية عند ابن تيمية مرتدين عن الإسلام لارتكابهم ناقضا من نواقض الإسلام، والأمثلة في هذا الميدان كثيرة.
المحطة الرابعة: الاعتماد على مصطلحات فضفاضة في الحكم على الأفعال الناقضة للإسلام.
ولو استعرضنا بعض ما يُطلق عليه نواقض الإسلام لوجدنا أن علة الحكم لا تتصف بالدقة والانضباط، ما يجعل منها سيفا بيد العابثين من أصحاب الفرق المنحرفة، وخاصة ما اصطلح عليها بالأصولية الجهادية والتي اعتمدت في القتل وسفك الدماء والحرق والتنكيل على عدم انضباط المصطلحات، ومن ذلك ما عرف بالأصول العشرة الناقضة للإسلام علما بأنها قد غزت مساجدنا، وقد أوعزت وزارة الأوقاف في هذا البلد الطيب مشكورة بالتخلص منها.
ومن أمثلة ذلك ما قررته إحدى المدارس الفقهية من قاعدة "من استهزأ بشيء من دين النبي صلى الله عليه وسلم انتقض إسلامه وأبيح دمه وحاله أشد من حال مشركي العرب -وإن كان مازحا-"، وليتهم بينوا لنا حدود الاستهزاء من جهة أصل الفعل وقصد الفاعل؛ إذ يمكن لأي عابث أن يُدخل من شاء في دائرة المستهزئين بدين رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يشاء ومتى يشاء.
المحطة الخامسة: تكفير الممتنع عن التكفير.
إن التكفير لا بد أن يبتني على أدلة بينة لا يخالطها شك؛ حيث لم يرد في القرآن أو السنة ما يشير إلى الحكم بالكفر على من لم يُكفر من كَفّرَهُ أحد المجتهدين، ومن الأمثلة على ذلك حكم ابن تيمية بالكفر على من شك في كفر اليهود والنصارى، والله تعالى يقول: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). فهذه الآية الكريمة أدنى ما تدلُ عليه أنها شبهةٌ مانعةٌ من تكفير اليهود والنصارى، والقول بالتخصيص مختلفٌ فيه، فيتحصل لدينا أن من لم يكفر اليهود والنصارى متأول على أقل تقدير، ولا يلزمه حينئذ القول بما ذهب اليه ابن تيمية وأسلافه.
المحطة السادسة: تفويض المتطرف نفسَهُ بتنفيذ حد الردة.
إن من المفارقات العجيبة التي قال بها بعض فقهائنا الأجلاء مخالفين فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ". إذ فسروا هذا الكلام أن التغيير باليد لا يكون الا لولي الأمر، وهذا مجمع عليه عند أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة، فمن الفقهاء من أعطى أفراد الناس الحق في هذا النوع من التغيير، بل في أخطر أصناف تغيير المنكر حسب رأيهم، فقد أعطى هذا الفقيه الحق للمتطرف الذي يعتقد كفر أحد من الناس أن ينفذ فيه حد الردة بيده منفردا ولا يؤخذ به قصاصا بل يُعتد مأجورا، ومن أمثلة ذلك ما قرره ابن تيمية؛ حيث يرى أن "الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه"، وكذا الشوكاني، وهذا العدد من الفقهاء وإن كان قليلا إلا أنه شَكّل عمدة التطرف والغلو خاصة في أيامنا هذه.
وبعد هذا الطواف وهو غيض من فيض، لا يسعنا إلا أن نستنتج أن بعض فقهائنا الأجلاء ومن تبعهم من علمائنا قد ذهبوا بعيدا بالاستهانة في حرمة الدماء التي أكد القرآن الكريم تعظيمها، قال الله تعالى: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا". ويدل هذا على أنه لا قتل في الإسلام إلا بمقابل النفس أو الفساد في الأرض المؤدي إلى سفك الدماء وإرهاب الناس. وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم، تعظيم حرمة الدماء بقوله "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا". وما ذهب اليه بعض فقهائنا الأجلاء مناقض لكرامة الإنسان، قال تعالى "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ". وما ذهب اليه هؤلاء الفقهاء كان السبب وراء ما يجري في بقاع الأرض من ذبح وحرق وتفجير بحجة أن الناس كفرة أو مرتدون، وأن لأي فرد مؤمن بالله حسب زعمهم الحق في تنفيذ حكم الله في الأرض انفرادا، وهو مأجور وتتلقفه الحور العين. فهم بذلك استبدلوا قوله تعالى "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ"، بقولهم بلسان حالهم: ولقد كفرنا بني آدم وقتلناهم في البر والبحر، والله المستعان.

تنبيه: كلمة الفقهاء وكذلك الرواة الواردة في العنوان، وكذلك أي كلمة عامة وردت في المقال فهي ليست على عمومها وإنما هي خاصة، ولا يجوز بحال أن يُفهم من مقالي هذا وغيره ذم المذاهب الفقهية أو العلماء أو المحدثين فهم جميعا محط كل احترام وتقدير، وجميع مقالاتي تخضع لقاعدة "كل يؤخذ من كلامه ويُرد الا رسول الله صلى الله عليه وسلم".