Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    25-Aug-2022

برهومة يكتب: هل لدينا من يُدرّس الفلسفة؟

 عمون-د. موسى برهومة

الفرح الذي تلقت به النخب الأردنية قرار إعادة تدريس الفلسفة في المناهج، بعد احتجاب دام نحو نصف قرن، يتعين أن ترافقه مطالب حثيثة بدعم هذا القرار بأدوات تنفيذية، وتمكينه من أن يسير على قدمين واثقتين، وهذا ما لا توحي به الأمور للوهلة الأولى.
 
القرار مهم، بلا ريب، وبعضهم وصفه بـ"الإنجاز العظيم"، ولا تثريب على هذه الحماسة، بيْد أنّ التفكير العقلاني (وهو ما تسعى إليه الفلسفة وتحفّز عليه)، يستدعي أسئلة كثيرة من قبيل، طبيعة المنهاج المعنيّ ومضامينه، والفِرق المتخصصة التي ستتولى التأليف، ثم (وهنا المأزق الأكبر) من سيتولى تدريس هذه المساقات التي أقرتها لجنة الدراسات الاجتماعية في المركز الوطني الأردني لتطوير المناهج؟
 
إذا لم تحسم هذه الأسئلة، وبخاصة السؤال الأخير، فإنّ القرار لا يعدو أن يكون أشبه بوضع العربة أمام الحصان، لا سيما إذا علمنا أنّ أعداد المتخصصين في تدريس الفلسفة في الأردن شحيح جداً، وأنّ ثمة جامعة وحيدة من بين جامعات الأردن كافة تدرّس الفلسفة كمساق منفرد، وتمنح فيها درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وهي الجامعة الأردنية، وربما تكون هناك مساقات تأتي على الفلسفة في جامعات أخرى، لكنها لا تخرّج طلبة حائزين على تخصص الفلسفة.
 
أما القسم "اليتيم" للفلسفة الذي ذكرناه، فبالكاد يخرّج طلبة بأعداد محدودة في المراحل الأكاديمية الثلاث، وهذا العدد لا يمكنه (حتى لو كان كل عضو من أعضائه بألف امرأة ورجل) أن يغطي عدد طلبة المملكة الذين بلغوا العام الماضي زهاء 2.17 مليون طالبة وطالب.
 
إذاً، ماذا سيجترح "صنّاع القرار" للخروج من هذا المأزق، مع العلم أنّ منهج الفلسفة سيدرّس العام المقبل لبعض المراحل الدراسية، فمن سيقوم بتدريسه؟
 
هناك خياران وحيدان، كلاهما أكثر بؤساً من الآخر: أن يتولى "متخصصو الفلسفة" القلائل (ولا أدري إذا جرى تعيين أساتذة فلسفة جدد في وزارة التربية والتعليم) تعليم بعض الصفوف في بعض المدارس، وهذا يعني حرمان الغالبية الساحقة من الطلبة من أن ينهلوا المنهج من خلال متخصصين. والخيار الثاني، وهو الأكثر رجحاناً، أن يتولى أساتذة الجغرافيا والتاريخ والتربية والوطنية والتربية الدينية، وربما أساتذة اللغة العربية، هذه المهمة الكأداء، فيكرّهوا الطلبة بالمساق، و"يطفّشوهم" أو يأخذوا بإجراء "تخفيضات" في المساق، فيُتقطع هذا الجزء وذاك، حتى لا يبقى من المساق شيئاً.
 
وقد شهدتُ على هذه التجربة شخصياً أواخر تسعينيات القرن الماضي، حين دبّ الذعر في نفوس طلبة التوجيهي عندما كانوا في مواجهة منهج، أو جزء من منهج (فيه شيء من الفلسفة والمنطق) ملحق بمساق التربية الوطنية، وليس له من يدرّسه، وكان من حسن حظهم أنني متخصص في الفلسفة، فقمت بإعداد "دوسية" وضعت فيها كل الأسئلة المتوقعة في الامتحان، وإجابات مبسّطة عنها، وكان ذلك بمثابة "المنقذ من الهلاك" للطلبة الذين كانوا يتواصلون معي من المدارس الأخرى للحصول على "الدوسية"، فقررت نشرها في صحيفة "الرأي" على حلقات لتعميم الفائدة، ولتكون متاحة ومجانية.
 
هل أقول الآن، وقد ارتفع مستوى الأدرينالين في دمي، بعد استذكار تلك الواقعة: ما أشبه اليوم بالبارحة؟
 
المشكلة ذاتها تتدحرج. وقد قيل في حينها إنّ هناك عزماً على إعداد مدرّسين ذوي كفاءة للخروج من المشكلة، وهو الاقتراح ذاته الذي راح يتردد في الآونة الأخيرة، و"كأنك يا أبو زيد ما غزيت"!
 
لا تتوخى الملاحظات السابقة إشاعة الإحباط، وإنما حماية القرار من أن تختطفه التفاصيل التي لا ترحم، لا سيما إذا علمنا أنّ هناك "تيارات" من مصلحتها وضع العصيّ في دواليب تنفيذ هذا القرار؛ لأنها ما تزال تعتقد أنّ الفلسفة وإتقان التفكير الناقد ومساءلة الذات والعالم هي الكُفر البواح، والعتبة الأخيرة نحو هاوية الفساد الأخلاقي والتحلل القيَمي وتفكيك ثوابت الأمة!
 
لقد قيل قديماً ويتردد حديثاً: مَن تَمنطق فقد تزندق. لكنّ الوقائع التي تنتجها جماعات احتكار اليقين المطلق التي تتوخى العنف وقتل المخالفين وتقسيم العالم إلى فسطاطين: خير وشر، هذه الوقائع تصدر عن أشخاص لم يتنمطقوا فتزندقوا، وراحوا يفخّخون المجتمعات بفكر منغلق لم يداخله النقد ولا عرف علوم التأويل، ولا طرقت تيارات العقل أبوابه، وهذا ما أوقعه في التناقضات الجسيمة والفادحة التي وجدت ضالتها في التدمير، والرغبة في إعادة الحضارة البشرية إلى عصر الكهوف.
 
الفلسفة تُحصّن، وتحفّز على الإبداع؛ ففي العالم المتقدم، يتم تدريس الفلسفة منذ مرحلة رياض الأطفال. وبدأ حركة الفلسفة للأطفال (P4C) البروفيسور ماثيو ليبمان، الذي أسس معهد النهوض بالفلسفة للأطفال في جامعة مونتكلير بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1974. يعتقد ليبمان أنّ الأطفال الصغار يمتلكون الأدوات اللازمة للتفكير العقلاني. وهناك تجارب عربية مشابهة.
 
ثمة إعادة اعتبار عربية، ولو متأخرة للفلسفة، ليقين عاندته الأقدار سابقاً، بأنّ الفلسفة هي حقاً "أم العلوم" وهي المحرّك الأصيل لكل الأفكار المجنّحة الخارجة عن المألوف. الخيال ابن الفلسفة المتمرد على القواعد والعاصي للمألوف، ورفيق ما هو قَلِق وموّار بالأسئلة. والسؤال عدو اليقين، لذلك يخشاه الإيمان التقليدي القائم على التسليم، وإخماد قوى العقل، ولجم الشكوك.
 
وكان مصير السؤال، عبر التاريخ، الإجهاضَ، واُبتلي السائلون المشكّكون بأفظع المصائر وأكثر النهايات مأساوية، ومًن رحمته يدُ اليقين الباطشة، شُرّد وعُذب ونُفي ومات معزولاً، لكنّ أفكار هؤلاء لم تمت، وظلت تنفخ في أوصال الكون روحها المتمردة العصية على التدجين.
 
لو لم يسأل غاليليو، ولو لم ينشر نظرية مركزية الشمس التي جاء بها كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية (لا غيبية)، ولو لاذ إديسون بانكساره وصدّق مزاعم أستاذه في المدرسة بأنه "غبي"، ولو أنّ نيوتن تقاعس عن تأملاته وتجاربه، ولم يتوصل إلى أنّ مجموع القوى التي تجذب الأشياء، هو مركز الأرض وليس في مكان آخر. ولو لم يخترع السومريون العجلة منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.. لو أنّ هؤلاء ومثلهم كثير من الذين غيّروا مجرى التاريخ، لم يفّعلوا طاقة الشك والمراقبة وتفجير العقل حتى أقاصيه التي بلا ضفاف، لكان العالم غير هذا الذي نعيش فيه.
 
ربما بفعل هذه المنجزات العظيمة التي كانت الفلسفة فيها ملهمة، كان فرح النخب الأردنية بعودة تدريس الفلسفة، وهو الفرح نفسه الذي غمر النخب العربية بإطلاق "بيت الفلسفة" في الفجيرة بالإمارات العربية المتحدة، العام الماضي، والذي يضم نخبة من ألمع المفكرين والفلاسفة العرب، ويومّل منه أن يقود القاطرة نحو إرساء قواعد التفكير العقلاني، وتعميمها.
 
في كل مكان حولنا نسمع، كما قال كانط، صوتاً ينادي لا تفكر: رجل الدين يقول لا تفكر بل آمن، ورجل الاقتصاد يقول لا تفكر بل ادفع، ورجل السياسة يقول لا تفكر بل نفّذ. لا أحد يقول تفلسف.
 
مهلاً يا صاحب "نقد العقل المحض"، لقد سارت مركبة الفلسفة، ونرجو ألا تتوقف.