Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-Jan-2020

صوت العشق في «تراتيل السلام» للشاعر بكر السواعدة

 الدستور-د. عماد الضمور

تنتمي قصائد الشاعر بكر السواعدة في ديوانه الثاني ( تراتيل السلام) الصادر عن وزارة الثقافة الأردنية عام 2019م إلى الشعر الوجداني في الغالب، إذ ضمنه الشاعر آلام نفسه، وآماله الحياتيّة، واستودعه همومه المتصاعدة، وأثقال روحه، حيث غلبت النظرة الحزينة على تجربته الشعرية.
أولى قصائد الديوان حملت نداء للشاعر الصوفي جلال الدين الروميّ  مشبّعاً بمعاناة الشاعر بعدما  اكتمل الاحتراق النفسيّ، وتضاعفت الآلام. فكان استدعاء جلال الدين الروميّ ؛ ليكون رفيقاً له في العشق والمحبة الإنسانية الصافية بعيداً  عن انكسارات الواقع، وخذلان الأخرين حيث يقول:
«يا سيَّد العُشاقِ، هذي حالُنا/ عَبثًا نُريقُ الوقتَ، يا مَولانا/ نَحثو غُبارَ الذّكرياتِ ونَقْتَفي/ صوفيّةَ الأحلامِ في ذكرانا/ فإذا تَجلّى الحبُّ وانفَسحَ المدى/ ألقتْ عَليهِ ظَلامَها دُنيانا/ لم يبقَ منّا غيرُ صوت زَفِيرنا/ يُلقي السّلامَ على الرّدى إذْ حانا/ أوَلا تَرى العُشّاق يّصْدَحُ صَوتهم/ مِلْءَ الفَضاءِ، يَشقُّهُ تَحْنانا» ( الديوان، ص10).
إذا انتقلنا من جمالية المناجاة لصوت تراثي راسخ في الوجد والشوق للأخر إلى دلالات هذا الاستدعاء، فإنّ  البعد الباطن في النص يحمل تصعيداً دلاليّا عميقاً ينزاح عن دلالة النص الظاهرة؛ ليحمل إدانة واضحة للواقع الذي لم يعد يحتمل مثل هذا الجفاء والفقد. وهنا يقع المتلقي في منحنى وجداني آخر، إذ عكس النص حالة تكثيف نفسيّ، وإشارة وجدانيّة إلى حُلم بعيد ورؤيا جامحة، أو بتعبير آخر حالة وجد خاصة يحياها الشاعر مأمولة، تمثّل جزءاً من عالمه الحالم.
والقارئ لقصائد الديوان لا يجد صعوبة في البحث عن ذات الشاعر، بل يمكن أن يجدها في كلّ القصائد، حيث بساطة الألفاظ، والبعد عن التكلّف، يستمد قاموسه من الواقع، ومن معاناة نفسه المتصاعدة، حيث عالم الوجدان الذي يمتاز بالرؤى الحالمة، والاندفاع المغامر، فهو عالم غير مستقر، يلهث وراء الحقيقة، ويسعى إلى التوحّد مع الذات؛ بحثاً عن أمل مفقود، لا يمنحه إلا الدموع والخوف، فنجده يقول في قصيدة « حنانيكَ»يقول:
حنانيكَ يا ذا الصَّباحُ فإنّي/ أُبدّلُ لَونَ  السَّماءِ، ولوني/ وأقطّعُ قَلْبَ المسافاتِ بحثاً/ عن الشمسِ في لُجّةِ الغيمِ، عنّي/ وأحْمِلُ في بقايايّ ذِكرى/ تُشّكّلُ لَونَ الأساطيرِ منّي/ صدى الأمسِ بعضي، وبعضي بعيدٌ/ وبُعدِيَ بَعضٌ يُجسِّدُ كَوني» ( الديوان، ص15).
إنّ عشق الشاعر للكون لا يُحدّ، ينادي الأحباب والأصحاب، وسيلته الوحيدة الكلمة المتوهجة يشعلها من أجل البحث عن الحرية والسلام. حيث يقول في قصيدة( أميرة القصيدة):
«تعودُ لي على جناحِ لهفتي
تقودُ ليْ الأملْ
وتبعثُ الحياةْ..
أميرتي..
نسائمُ الأحلامِ، أغنياتُها الشجيّةْ
دفاترُ الحُبّ الذي لا يعرفُ الفناءْ
تقرؤُني، تكتُبني
قصيدةً لا يستبيحُ صوتَها النسيانْ
ولا يتيهُ حرفُها في عالم الأحزانْ
كأنّها ولادة ُ الصباحِ من جديدْ..». ( الديوان، ص177).
إنّ ظهور القصيدة الطويلة في ديوان الشاعر جاء نتيجة حتميّة لنزعة دراميّة واضحة في شعره، الذي لا يتوقف فيه فعل البوح بل ويستمر في سرده الدرامي، ليمزج الماضي بالحاضر، كاشفاً عن مخاضه الطويل الذي رافق ولادة النص الذي بدأ مع لحظة الحياة الأولى واستمرّ برغباته المقهورة التي أيقظت إرادة الحياة في داخله، فنجده يقول: 
«نورٌ يتسلّلُ من شُبّاكِ الغيم إلى الشُرفةْ
ويعودُ يسابقُ صوتَ الريحِ، ليهجرَ أروقةَ القصرِ...
في القَصرِ فتاةٌ شاحبةٌ
قد أرْضعها الهمَّ الدهْرُ
لا تعرِفُ طعماً للدنيا
لا تفقهُ غيرَ الحُزنِ، ولا تدري
حتّامَ تظلُ تمارسُ طقسَ الخوفِ،
وتنسجُ أكفانَ الذكرى..».( الديوان ص97)
وفي قصيدة( هذي المدائن) التي يرثي فيها واقع الأمة المنكسر مستحضراً مأساة بغداد ودمشق، وصنعاء، وطرابلس، والقدس، وما حلّ بها من عدوان معاصر، فكانت قصيدته رصداً دقيقاً لما آلت إليه أحوال الأمة، وما يستوجب عليها من نهوض، ممّا جعله يأسى لواقع الأمة الأليم، ويستصرخ الأمة للنهوض، حيث يقول:
باللهِ مَنْ للقدسِ إذ صَرَختْ بنا/ وقلوبنُا عن همِّها صَمّاءُ/ مَنْ ذا يُداويها ويَجْبرُ كسرها/ وعُيونُنا عن جُرحها عَمياءُ/ هذي المدائنُ، آهِ كيف تبدَّلت/ وغدا يقودُ شموسها الأعداءُ/ قد فُرِّقتْ كالعقد ينثرُ حَبّهُ/ فتبعثرت في أرضها الأشلاءُ» (الديوان ص 83 ـ 84).
أمّا موقف الشاعر من الزمن فجاء حاضراً في قصيدة ( جنون على عتبة الأربعين) ؛لذلك ولا عجب فالزمن  جزء من معضلة الشاعر في الحياة، بعدما انضوت المخلوقات تحت مظلته، وأصبح شاهداً على حالة الفقد العامة، التي أطاحت بأماني الشاعر، حيث يقول:
«شهقتْ على طرفِ السنينَ قصائدي
وقفتْ تُحدّق في الوجودِ
كسيرةَ النظراتِ، شاحبةَ الجبينْ
هذي حُدودُ الأربعين...
أخذتْ تُرددُ في خبايا روحها
هذي حدودُ الأربعينْ!». ( الديوان، ص173)
وقد يأتي موقف الشاعر من الزمن في إطار رومانسي يعكس حركة الزمن الطبيعية، التي تجعل من الحبّ عنواناً للحياة. حيث يقول:
«عيناكِ لي/ وطنٌ يلمُّ ضُلوعي الحَرّى
بَرْدٌ .. سلامٌ كاللهيب!
يشُدُّني نحو الحياة
يَرُدُّ لي رُوح القصيدة
يوم أزمعتُ الرحيلَ
إليكِ؛ شوقاً للحياةِ». (الديوان، ص267)
لذلك جاء الدمع حاضراً برؤى رومانسية، يقترب فيه من البكاء التقليدي لكن ببعد إنساني يعانق رؤى الوجود ، وأحلام البشريّة بحياة هانئة، ممّا أبرز نزوعاً نحو تصوير المعاناة ببعدها الجمعي ، ممّا جعل الدمع بؤرة مركزيّة لأفكاره، ومبعثاً لأحزانه، كما في قصيدة ( أحجية الدمع) التي يقول فيها:
«الدمعُ ...
أغنيةُ الجياعِ وبوحهم
ورجاؤهم
فهمُ الذين تراقصوا من خوفهم
من بطش قيدٍ كبّل الشمسَ المقيمةَ تحت أكوام الظلامْ» (الديوان، ص94)
ويستنهض الشاعر (ميشع ) ملك مؤاب، هذه الشخصية التاريخية ذات الأبعاد الحضاريّة الواضحة، وبخاصة في جانبها المقاوم الذي استطاع من خلاله تحقيق المشروع النهضوي للأمة، ومقاومة أطماع العبرانيين، فكان خطابه لمسقط رأسه( ذيبان) خطاب عزة وشموخ، لا ينفصل عمّا حققه ميشع لأمته من نهضة وانتصار، حيث يقول في قصيدة ( ذيبان):
«يا مَهدَ ميشعَ، يا عَرينَ صُموِدهِ/ يا قلعةً بَقيتْ على الأزمانِ/ سَأصُوغُ شِعري حُلَّةً عَربيةً/ مِسكّيةَ الأنسامِ والألوانِ/ وأُميطُ عَنْ وَجْهِ الجَمالِ لثامهُ/ فَيرى الأنامُ بهاءَها ذيباني/ فالحُسنْ فيها يَسَتحيلُ قصائداً/ يَزهُو بِنسجِ حُروفهنَّ لِساني». (الديوان، ص94)
يعلو صوت المجاز في قصائد الديوان، وهو صوت يمتاز بالكثافة التعبيريّة، ووضوح الصورة، فضلاً عن بعدها الوجداني الذي يحقق جماليّة واضحة في التواصل مع المتلقي، حتى أن هذه الدلالة المجازية كانت حاضرة في عناوين قصائده مثل: مُدّي يديكِ، وصُبّي حياتك، وأُغازل الشمس، وأيها الليل، وأنا يا بحر، وقلب المسافات، وصمت على قارعة الحنين، وخوف على ضفاف المسافات، وزقاق الخوف، وسنديان الوقت، وأحجية الدمع، وضباب المرايا، وغيرها من القصائد الوجدانيّة.
لعلّ هذا المجاز شكّل روحاً حقيقية للغة الشاعر، ونبضاً لصوت الذات، بعدما وجد نفسه يقتات في حالة نزف مستمرة، وانقياد لذكريات لا تعود، كما في قصيدته ( صمت على قارعة الحنين) التي ينهض بها بلغة الوجع، ويبوح من خلالها بآلامه، حيث يقول:
«في أحرُفيْ الثّكلى شُحوبٌ
كالسماءِ إذا تَدَلّتْ فَوقَ خارطة الحنينْ..
شَوقٌ يُذيبُ مَعالمَ الصبرِ،
انتفاضٌ ، فيه مِنْ  ذِكراكِ ثَرثرةٌ
وكونٌ من حنينْ». (الديوان، ص113)
يبقى القول: إنّ تجربة بكر السواعدة الشعريّة  تستحق الوقوف على جوانبها الفكرية والفنية، إذ  كشف منذ بداياته عن تجربة وجدانية خصبة تخللتها قصائد عاطفية، ووطنية وقومية ، بلغة مسبوكة ومعانٍ سامية ورؤى متوهجة، تنبئ عن شاعر قادم بقوة للساحة الشعريّة الأردنية ، بعدما أجاد القصيدتين العمودية والتفعيلة ووضع نفسه في معترك الإبداع متسلحاً بثقافة واسعة ودراية باللغة وأساليبها، وخيال جامح يأتي بأجمل الصور، فضلاً عن تجربته الحياتية التي عنوانها الألم والأمل معاً.