Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    27-Mar-2020

أزهــــار قــــــاع البئر

 الدستور-ليلى جاسر سلامة

بينما تحبو على بساط خشن إذ تتوهجُّ عينا ذئبة تُشمشمُ أثرَ الإبرة التي وقعت من يدها محدثةً سقطتها رجّة في جدران العُشّة والأعشاش المجاورة ومياه النهر والمآذن، وأجراس الأبقار التي تجرُّ السواقي النائية.
 
انقبضت أنفاس حميدة أبو الفول.. انكمشَتْ أعصابها.. تخدّرت أطرافها.. وفقد إحساسها الوعي ثمّ تكوّرتْ جنينًا طريحًا في رحم امرأة تحت تأثير الحشيش. بينما دعستْ الفاجعةُ صدرها ولْوَلتْ صياحًا فتق معدتها: «أين راحت الإبرة؟» خضّت جسدها المتوعك.. بَرَكَتْ على ركبتيها المخدوشتين، شغلتْ كفيّها المعدنيين بطرق رأسها تباعًا وناحتْ: «يا مصيبتي! ..» تسعرُ أمّي في جوف الليل أنينًا محترقًا على فقدان الإبرة، فقدٌ سيخرّبُّ عيشتها وينكّد علينا حياتنا! أدعو لها أن يكويها الصمتُ للأبد علّني أتذوّق طعم النوم مرّة دون انقباض المرتبة تحتي.
 
ما زالتْ تُصرصِرُ كجندب: «أيتها الليلة المنحوسة.. هاتي لي الإبرة!».. تلاطمت ذراعيها كخطف منجل يحشُّ ذرّات القش المبعثر في ثنايا الدار.. جنّ جنونها فأخذ دبيب نمل يلتهمُ أجسادنا.. عضّت زنديها فغاصت أسنانها في دمها.. لطمتْ حظّها بسيلِ شتائم مقرفة.
 
قرصتْ خديّها ثمّ وكزتْ جلد ردفيها الرطب لعلّه مجرّد كابوسٌ عابر يتسلّى بها، وما زالت تحبو على قوائمها كقط يترقب فريسته التي فلتتْ من بين يديه.. ثار عَرَقُها المغلي في خصلات شعرها التي شدّتها بكفيّها المجنزرتين حتى كادتْ تتمزق فروة رأسها.
 
انحنت ...ارتقت قليلًا، ثمّ انحنتْ وأنا ما زلتُ أرفرفُ رمشيَّ بحذرٍ في فراغ مظلم لعلّي أسبقها في اصطياد الإبرة. تعفّن الوقت تحت ظل بؤسها المطحلب في نوحها ولطمها: «يا ويلي وحماقتي ومصيبتي ومصيري الأجدب، من يجدُ إبرة في كومة قش؟..من يخرجُ إبرة من قاع البحر؟ « ... أوصتها جدتي عفيفة أنّ إبرة الخياطة أغلى ما ستمتلك.. سيحررها ويعتقها ... سيزيحُ عن كاهليها عبء الشك ويرتاح بالها ولذا أنذرتها لها: «الحذر الحذر من فقدانها، وإلّا جنيت على تربية بناتك الخمس..» أشدُّ مصيبة مرّت في حياتها أزهار قاع البئر، هكذا وسمت قدرنا في عشّتها.
 
صفعتْها الظلمة الحالكة على فمها الثرثار وجفّف عروقها الخوف بسبب ضياع إبرة في تلك الساعة من الليل بالذات.. ربما توارتْ خلف ستائر المنزل السميكة أو ربما أسفل إحدى آرائك الخيزران العتيق أو تسلّقت نحوالسقف العالي ..وربما ولّتْ هاربة إلى طريق عائم. أمّي لن تنام قبل أن تجدها! لن تعير اهتمامًا لتقرحات جسدها وتصلّب أطرافها ولا للعتمة القارصة ولا لسكون الليل وصدى نواح الإبرة من بعيد..هي فقط تريدها الآن.
 
الوقتُ يباغتها ويكاد منتصف الليل يطلّ بوقاحته ليعري تلك الأجساد النائمة في مسكن من نار، فالشيطان يسكن في التفاصيل واللذة تتحشّد في تلك المكامن تحت سورة سماء ملتهبة مكشوفة على لهاث الألسنة. حميدة أبو الفول لا يهمّها الإحساس أو معناه أو مبناه ومنبعه..تُشرعُ في قتله كل ليلة..لا شيء يخزُّ ضميرها.
 
لا تملكُ أمي حميدة ونحن أيضًا الحق بالإحساس؛ لأننا مجرّد أسطح من أعضاء تالفة وأعصاب مشدودة تمامًا، عضلات المهبل في أكياس تجميد، وعند النوم أجنّة تلفُّ سيقانها بأذرع متينة تقبض على غشاء البكارة كي لا ينزّ سائلها الأبيض، لا شخير ولا شهيق أو زفير..ولا حاجة للتأوهات أن تصل السواقي والقناطر.
 
توارثت معتقدًا خالصًا بأنّ وخزُ أردافنا أثناء النوم وسيلة ناجعة اتبعتها أمها وجدتها وسلالتها وأهل القرية لتخدير الرغبة ثمّ نحرها عند الفتيات..وأدٌ من نوعِ آخر. عصفت الريح بالقش المنثور على المياه الجارية والأرض الرطبة والنكسات المتتالية عند الجيران وحليب الرضاعة بمذاق التبن وهي ما زالت تضرب صدرها وتنوح على الفقيدة التي لمحتها عالقة في ثوبها طيلة الوقت، لبدتْ على وركها فوخزتها الإبرة حتى استحالت جمادًا ساكنًا أو ساق شجرة لا تتنفس.. لم تتألمْ من وخزها بل ألقتْ القبض عليها، أمسكتها واقتلعتها من قفاها دون أن تشهق، ثمّ انقضّت علينا تغرزُ إبرتها المسنّنة بأردافنا قرصات سريعة لتنكمش أطرافنا، وتتشنّج عضلات أرجلنا ونصيرُ كأزهار قاع البئر أو مسوخًا عاجزة عن التقلّب في نومنا.
 
تتفقّد أمي أثر وخز الإبرة في أجسادنا لئلّا نمارس العادة السرّية، ثمّ تلتقطُ عيناها الذئبية صورة تثبت ما سبق؛ أجسادٌ متكوّرة كأجساد الأجنّة، وسيقان ملتصقة بشكل محكم، وأكتاف مشدودة إلى العنق، ودمعٌ حارقٌ يتوسّد أكفَّا فاترة.