Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    25-Nov-2020

القارئ في الرواية

 القدس العربي-عبدالحفيظ بن جلولي

قبل أن يتم المشي على خطى حدث ما متخيل، يتصفح القارئ الرواية التي بين يديه، ينتقل من صفحة إلى أخرى وكأنه يبحث عن حركة على بياض الصفحات، تلك الحركة موجودة بالفعل، لكنها من كلمات ما يجعلها تتقافز، هو التمرير المتتالي للصفحات، والقارئ حينها يبدو متوثبا، ينتظر شكلا ما يقفز من الكلمات إلى عالم الواقع، يعيد الرواية أدراجها الأولى من الاستقرار بين يديه، يمعن النظر في العنوان، كما لو إنه يجري عملية مسح، ثم يستصحب فنجان قهوة أو موسيقى أو يأوي إلى ظل شجرة أو يستلقي على كرسي متأرجح، أو يتخلى عن كل هذا وينساق خلف لحظة تقليب صفحة الغلاف ليمسك الصفحة الأولى، وجملتها الافتتاحية، مستهلا السفر في غابة الكلمات التي قد لا يعود منها إلا وقد غامر بالوقت كله في لعبة «القراءة التي ليست استهلاكا» بتعبير رولاند بارث.
ماذا يريد القارئ من التهام رواية لا يعرف عنها شيئا سوى ما قد قاده إليها العنوان واسم المؤلف؟ يقول المثل الشعبي «أخبار الدار على باب الدار»، تلك هي البداهة التي ينطلق منها القارئ مفسحا المجال لخياله في اكتشاف تجربة أخرى تشكلها الكلمات، أحيانا يكون العنوان خافتا، لكنه يستقر خلف اسم الكاتب المعروف، فيخوض القارئ تجربة القراءة منساقا خلف الاسم المعروف، وبالتالي يخضع مثل هذا القارئ الإسمي لعملية امتصاص النسغ الفني لاسم الكاتب، لا إلى ما ينتظره هو من اكتشاف مستويات الكتابة، تلك المستويات التي تكون قد ركب عناصرها وفق ميكانيزمات حدثية لا تتوافق ومخيال القراءة.
تكشف قراءة الرواية عن مستوى آخر من القارئ، ذلك الذي يبحث من خلال مخياله عن مخيال مثيل في الطبيعة، وليس في التركيب، هذا القارئ المخيالي يشكل عالمه الذي يفتتح به لحظات تصفح الرواية، من خلال تخيل مسبق للكتاب الذي تركه فوق طاولة الليل، وتحت ضوء النواسة الخافت، تركه لأمسية تجمع سكونها إلى سكون الكلمات، لا يريد القارئ المخيالي أن يفوت صمت المكان الذي يبوح بأشياء تساهم في توتير حالة الكتابة وفتحها على عوالم أخرى تضيف إلى عوالمها حرارة التخيل الأولى في عالم الكاتب، ومحاولة اكتشاف الحركة البدئية، التي تفجرت بها نواة الحدث في الرواية. هناك مستوى ثالث من القارئ لا ينتبه سوى إلى الزمن المنفرج على لحظة تدفع بحركة الرواية الداخلية إلى الخارج، مشحونة بصراع الشخوص وقلقهم في أن يتحولوا من كائنات ورقية إلى كائنات واقعية، القارئ في هذه الحالة يتقمص الشخوص ويحيلهم إليه على أساس أن القراءة تتم وفق نمط حواري، وفي واقع الأمر، القارئ في هذا المستوى، يندمج في عالم الورق إلى درجة أنه لا يفرق بين ذاته الواقعية والبعد الورقي في الشخصية الروائية، ويبدو أنه خلال هذه العملية التبادلية، تنمو حركة وسطى بين العالمين الروائي والواقعي يستلهم منها القارئ ما يشبه السيناريو.
تنبثق القراءة في مسارها العفوي كوضع من الأوضاع التي يستقبلها الإنسان لكن بوصفه قارئا، يُقبل على الرواية ليستأنس بفوضاها المباغتة، مستمتعا بما ينتجه ذلك الوضع من أنماط تخييلية خارج هامش الرواية، إذ يعتبر الانخراط في القراءة الروائية انفصالا عن عالم الزمن والتحاقا باللازمن الذي يستغرقه وضع الهجرة إلى المتخيل، وهناك حيث تنعدم قوانين الواقع، يستسلم القارئ لسلوكات تستجيب مطواعة لحركة الانتقال بين الكلمات والجمل والفقرات، وبعد ذلك الصفحات، باعتبارها الفصل الذي يشكل اللبنة الأساس في شكل الكتاب/الرواية، ولا يكون هذا الانتقال سلسا ومنطقيا بين تلك الوحدات، إلا إذا تأسست في ذهن القارئ مسبقا العلاقة بين المعنى والمبنى مفصولين عن بياض الورقة، إذ تتطلب حينذاك الحنكة القرائية، عملية تركيب جديدة، أي أن القراءة تعتبر وعيا جديدا بالنص/الرواية، مُحاولة منبعثة من الداخل القرائي لتحديد المفاصل الحدثية الأصيلة بمعالم قرائية مستجدة، فيتفق القارئ مع الروائي في رفض هذا الأخير «كل تخطيط مسبق» لأحداث الرواية، كما يقول حميد لحميداني، فطريقة القراءة ليست مخططا لها، وكل نص يفرض طريقة قراءته، ولذلك تتعدد استشرافات مآل الحدث الروائي، باعتباره بنية متخيلة تتيح تخييل عتبات الدخول إليها، وبالتالي إعادة إنتاجها وفق معطيات القراءة غير المخطط لها، فالقارئ كما الكاتب يهرب من التنميط، ولذلك فهو قارئ تركيبي.
 
ليس قارئ الرواية سوى صانع حكاية، ينتجها انطلاقا من عملية تماهي غير مقصودة في نص غريب، لا يعرفه إلا من خلال «تعيينات» بتعبير جيرار جينيت، تحبب إليه قراءة المنتج النصي كإسم الروائي أو عنوان الرواية أو الإهداء، لينطلق في مغامرة تخييلية تصنع اقترابا ومقاربات.
 
لماذا يقبل القارئ على الرواية؟
سؤال نستطلع من خلاله الفرق بين موضوعات المعرفة، وتوسلاتها للمنطق والرصانة اللتين من خلالهما يتأتى التحصيل، وهما ما لا تحتاجه القراءة في الرواية لأنها منذ البدء تسجل انطلاقها في الخيال المنتج لنص على غرار النص الأصلي، وهو ما يعتاده قارئ الرواية، حتى يصل به الأمر إلى اعتباره قانونا يحكم كل أنماط القراءة، وقد يحدث أن تتحول قراءة المقال النقدي مثلا إلى نتيجة حكائية، تتمفصل مع المضمون الجوهري للمعنى في المقال، لكنها تختلف عنه في الطبيعة الإجناسية، فقد قرأت مقالا للروائي والأكاديمي الجزائري سعيد بوطاجين حول هنري ميللر وكان تعقيبي كالآتي: «يمكن الجلوس تحت ظل كرسي يؤثث غرفة فيها مكتب كبير، النواسة لا تشتغل والأقلام فقط للزينة، في تلك اللحظة ينفتح الباب، يتسلل القليل من ضوء الممر الذي يفصل المطبخ عن «الغرفة السحرية»، المكتبة كما يسميها إمرسون، هناك يوجد ميللر قابعا تحت هواجسه يؤثث الفراغ بخيال صديقته أناييس، الضوء الوحيد ربما الذي ألهمه العودة إلى المركب الذي عمره ثمانون جنونا».
فما الذي جعل التعقيب أو الفهم للنص، انتقالا من المستوى النقدي إلى المستوى الحدثي سوى أن يكون المتخيل هو المشترك البديهي بين مختلف أنواع «الإنتاجية النصية» بتعبير جوليا كريستيفا، ولكن يبقى هذا التعقيب مستغربا وغريبا في ذات الوقت، معلقا سؤاله حول مصدر الفكرة التي تغير في طبيعة الإجابة المنطقية، وأقصد بها التعقيب على النقد بلغة النقد وليس لغة الرواية، لأن الوعي القرائي اعتاد طريقة وحيدة لتأثيث فضاء الكتابة على الكتابة، باعتبار عدم اختلاف الطبيعتين كقانون ناظم، وتَمَثل الكتابة ذاتها كحقل للتفكير وليس للتخييل، وبالتالي تغيب أو تُغيب الرواية بحسبانها «لا تعبر، إنما تبحث عن صوتها» كما هو وعي آلان روب غرييه بـ»الرواية الجديدة»، وعليه يمكن اعتبار أن كل قارئ حامل لصوت خامد للرواية في عقله وفي خياله، يمكن أن يتعالق مع أشد الأنماط فكرية، واستيعابها في مستوى وجداني شعري وفق تطلعات النتشوية في الكتابة الشذرية، التي قربت الفلسفة من الشعر، أو ما يسميه غاستون باشلار «البيت الحلمي»، «الذي كان من اللازم السكن فيه»، إنه بيت الخيال الذي نقترب فيه من طبيعتنا المسكونة بوعي المستقبل من الماضي البعيد الذي لم نعشه، ولكننا نحياه كما المستقبل، كوننا متعددي الأبعاد نصل لحظتنا الوجودية بما خفي عنها تخييلا، أو «الطريق غير المطروقة» بتعبير روبرت فروست، وهو ما يصنع الواقع ويمنحه هوية التحقق.
ليس قارئ الرواية سوى صانع حكاية، ينتجها انطلاقا من عملية تماهي غير مقصودة في نص غريب، لا يعرفه إلا من خلال «تعيينات» بتعبير جيرار جينيت، تحبب إليه قراءة المنتج النصي كإسم الروائي أو عنوان الرواية أو الإهداء، لينطلق في مغامرة تخييلية تصنع اقترابا ومقاربات. مقاربات للمشاهد بمشاهد مغايرة تنطلق من وعي تخييلي مختلف على أساس زمن حضور وغياب، فالكاتب غائب في زمن القراءة والقارئ غائب في زمن الكتابة كما يرى بول ريكور، واقتراب تخييلي من الكاتب على أساس افتراض حوار بين ندين، فزمن القراءة زمن فني يضاهي زمن الكتابة في الطبيعة الإنتاجية.
 
٭ كاتب جزائري