Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-May-2020

"المعرفة ومصادرها: من المورثات البيولوجيّة إلى تشكيل العقول* د. عامر الحافي
مجلة أفكار -
المعرفة البشريّة على المستوى التاريخي سابقة للمعرفة الدينيّة، على الرغم من أنَّ السلطة الدينيّة قد جعلت من الدين نقطة البداية التي تستعلي على الإنسان والمعرفة والتاريخ. فالنص الديني يمكن أن يمثل مصدرًا للمعرفة التي تتَّصل بما وراء الطبيعة، وأن يقدِّم إجابات للأسئلة الكبرى التي تؤرِّق النفس البشرية. لكنَّ الخشية من حدوث انفصال معرفي بين الدين والدنيا، جعلت الفكر الديني "الشمولي" يستعذب فكرة اشتمال النص الديني على المعرفة الشاملة للوجود كله. 
................
يَز�'خرُ تاريخنا البشري بالكثير من الكتب المقدَّسة، كما هي حال الـ"فيدا" عند الهنود والـ"أفستا" عند الفرس والكتب الخمسة عند الصينيين. هذا بالإضافة إلى التوراة والإنجيل والقرآن لدى أتباع اليهودية والمسيحية والإسلام. تُمثِّل الكتب المقدَّسة تجسيدًا محاذيًا للتجربة الدينية البشرية، فالاعتقاد بأنَّ علم الله وصفاته يمكن لها أن تتجسّد في النصوص الدينية يمثِّل تقاربًا استثنائيًّا بين المقدَّس والدنيوي في الوقت ذاته الذي يمثِّل فيه مشكلة للنَّظرة الكلاميّة التنزيهيّة التي ترفض أيّ تداخل بين المقدَّس المفارق والدنيوي الحادث. وهنا يمكن لنا أن نلحظ كيف انتقلت تمثُّلات أرواح الآلهة في تاريخ المعتقدات الدينيّة من الطبيعة إلى أشخاص مختارين من السماء أو كهنة أو زعماء أقوياء.
إنَّ تمثُّل الخطاب الإلهي في صورة كلمات منطوقة بلغات بشريّة، أو كتابة منقوشة على ألواح حجريّة، يذكِّرنا بالألواح السومريّة المزخرفة بأحرف أوّل كتابة ابتكرتها البشريّة قبل ألواح موسى بقرابة ألفي سنة، وهذا ما يجعل الفكر الديني ظاهرة قابلة للتفسير والفهم وفق معطيات التاريخ.
النَّظر إلى النص الديني باعتباره تجسيدًا للصفات الإلهيّة "النص هو الإله" جعل كل حرف من النص الديني بمثابة لغز أزلي لا طاقة للإنسان بأن يحيط به. فالنَّظرة "التأليهيّة" للنص الديني من شأنها أن تجعل مساحة العقل البشري ودو�'ره في فهم النص محصورة في دوائر ضيِّقة.
بعيدًا عن الاستخفاف بمصادر المعرفة البشريّة باعتبارها غير منتجة في بلوغ الحقائق الدينية، فقد ظهرت في الفكر الديني محاولات توفيقيّة تسعى إلى إبراز العلاقة التكامليّة بين المعرفة الدينية والمعارف الأخرى في العلوم الطبيعية أو الاجتماعية. وعلى الرغم من الإشكالات العديدة التي تُساق حول هذا الاتِّجاه، فإنه يبقى أكثر إدراكًا لمشكلة العلاقة بين النص الديني والمعارف البشريّة من الاتِّجاه الذي قال بإسلاميّة المعرفة! فالمعرفة البشريّة على المستوى التاريخي سابقة للمعرفة الدينية. على الرغم من أنَّ السلطة الدينية قد جعلت من الدين نقطة البداية التي تستعلي على الإنسان والمعرفة والتاريخ.
نستطيع أن نفهم طبيعة العلاقة بين النص الديني والمعارف البشرية عندما نتَّفق على تحديد وظيفة الدين والمجالات التي يمكن له أن ينتج فيها. فالدين ما يزال فاعلًا بقوّة في الجوانب الروحية والأخلاقية والعاطفية، كذلك نجده محفِّزًا للمخيّلة البشرية وملهمًا للأدب الإنساني.
لا بدَّ من التفريق بين أثر النص الديني في المعرفة وبين اعتبار النص مصدرًا لجميع أشكال المعرفة. فالنص الديني، والدين عمومًا يمكن أن يمثل مصدرًا للمعرفة التي تتَّصل بما وراء الطبيعة. وأن يقدِّم إجابات للأسئلة الكبرى التي تؤرِّق النفس البشرية، ومهما كانت معقوليّة كثير من تلك الإجابات، إلا أنّها تحقق كثيرًا من الطمأنينة للإنسان.
النصوص الدينية نصوص ملهمة ومحفِّزة للعقل والإرادة البشرية. وهي تشتمل على مبادئ كليّة عامة في الجوانب الأخلاقية والروحية، ولكنها لا تشتمل بالضرورة على إجابات تفصيلية لكل شيء.. 
إنَّ معرفة قوانين اللغة والمعارف البشرية والطبيعية وظرفيات التلقّي والخصوصيّات الثقافية والاجتماعية. تمثل مقدمات تأسيسيّة لفهم النص الديني، وكذلك الدنيوي أيضًا، في تراثنا البشري على وجه العموم. وهذه المعرفة تمثل النطاق الأوسع لمفهوم "أسباب النزول" الذي حصره العلماء القدماء في مرويّات محدودة في كتب التفسير وعلوم القرآن. 
السؤال الحاضر هنا، ما دام النص الديني مشتملًا على الحقائق العلميّة والكونيّة، وما دام المؤمنون هم الأقدر على فهم نصوص دينهم ومعرفة خفاياه، فلماذا لم يتوصّل المؤمنون إلى الحقائق العلميّة المتضمَّنة في نصوصهم قبل غيرهم؟ ولماذا لم تكن هذه النصوص منطلقًا لاكتشافات علميّة جديدة عوضًا عن محاولات الرَّبط بين ما يكتشفه غير المؤمنين من حقائق علميّة وبين أفهام متكلّفة لبعض الكُتَّاب لنصوص دينيّة يضعونها في قوالب مغشوشة! الأمر الذي جعل النص الديني يبدو في نهاية المطاف "موسوعة" تشمل كل تفصيلات المعرفة.
لا بدَّ لمصادر المعرفة أن تكون منتجة للمعرفة البشرية في جميع سياقاتها الثقافية والحضارية فهي"عالميّة" و"موضوعيّة"، وهذا لا يمكن تحقيقه دون أن تكون تلك المصادر مستقلة عن العواطف والانفعالات "الذاتيّة".
وفي سبيل إعطاء النص شموليّة معرفيّة تفصيليّة يرتكز بعض الكُتَّاب على فهم مغلوط لبعض النصوص الدينية من قبيل قوله تعالى: "مَّا فَرَّط�'نَا فِي ال�'كِتَابِ مِن شَي�'ءٍ"(الأنعام:38)، والتي لم تكن تتحدث عن الموسوعية المعرفية، وإنَّما جاءت في سياق الحساب الإلهي للبشر وإحاطة الله بأعمال خلقِه. 
فالنَّظر إلى النص الديني باعتباره نسخة عن "اللوح المحفوظ" يختلف عن النَّظر إليه باعتباره "صحف إبراهيم" أو "ألواح موسى"، كما أنَّ "أم الكتاب" الذي "عند الله" يختلف عن "الكتاب" الذي تلقّاه الأنبياء عليهم السلام بلغات أقوامهم، وكان فيه لكل منهم "شرعة ومنهاجًا".
القول إنَّ النصوص الدينية تشتمل على معرفة المستقبل، وتواريخ زوال الدول، كما في كتاب "زوال إسرائيل عام 2022". واستعمال حساب الجمل والقيمة العدديّة للحروف وما يسمّى بالإعجاز العددي، جعل النص الديني يتحوَّل من كتاب هداية إلى كتاب سحري للمشعوذين والمُتَهوّكين والعرّافين "الشرعيّين"! ولا ننسى هنا استمرار استعمال النصوص الدينية في مختلف الأديان في تسويغ المعتقدات الشعبية كعزائم لطرد الأرواح الشريرة أو تلاوات وطلاسم لإزالة السحر.
يمكن للمعرفة الدينية أن تؤثِّر في المعرفة العلمية؛ من حيث البحث وراء الظواهر عن القوانين الناظمة لها. وهنا يمكن لنا أن نشير إلى العلاقة بين عقيدة "التاو" في الديانة التاوية الصينية، والبحث عن القوانين الطبيعية التي تقف خلف الأشياء. فـ"التاو" هي "القانون الطبيعي الذي تسير وفقه الكائنات". والتاو "تنتج الملاء والخلاء ولكنها ليست ملاء ولا خلاء، تنتج الذبول والهلاك ولكنها ليست ذبولًا ولا هلاكًا، تنتج الجذور والأغصان ولكنها ليست جذورًا ولا أغصانًا". وهنا نجد ملامح جدليّة فلسفيّة قديمة يلتقي فيها البحث عن الحقيقة المطلقة بالبحث عن قوانين الطبيعة من خلال ظواهرها المتغيِّرة.
كيف يمكن للعقل البشري أن يقرأ النص الديني في سبيل معرفة الإنسان والكون جنبًا إلى جنب مع سعيه لبلوغ اليقين ومعرفة المطلق؟ وكيف يمكن للمؤمنين أن ينتقلوا من البحث عن الله في النص الديني إلى البحث عن الإنسان والمعرفة البشرية التي يشتمل عليها ذلك النص؟
تنسجم المضامين المعرفيّة في النصوص الدينية مع التراكم المعرفي للمجتمعات البشرية. فالتفكير الديني القديم يمثل مصدرًا للمعرفة في سياقه التاريخي للمجتمعات القديمة، ولكنه لا يمثل مصدرًا للمعرفة العلمية في جميع السياقات والأوقات، وهنا لا بدَّ من التنبُّه إلى أهميّة التفريق بين وظيفة الأسطورة الدينية التي تنطوي على محاولة تفسيرية ميتافيزيقية للظواهر الطبيعية، وبين الخرافة التي تنطوي على معتقدات خارقة للطبيعة ولا تحوي أي قيمة معرفيّة. 
يمكن لنا أن نتفق على وجود أثر لعقيدة "البعث" عند المصريين في بناء الأهرامات، أو في تطويرهم للوسائل الطبيّة في تحنيط الموتى. وكذلك نستطيع أن نلمح أثر البحث عن "أكسير الحياة" أو "شراب الخلود" لدى أتباع الديانة التاوية الصينية في تطوير بدايات مفيدة في الكيمياء. أو أثر الإيمان بألوهيّة الأفلاك في تطوُّر علم الفلك عند البابليين.
بعيدًا عن موثوقيّة النص الديني أو صحة نسبته إلى مصدره، فإنَّ ثمّة تشابهًا كبيرًا في طريقة تعامل العقل الديني مع النصوص الدينية على المستوى المعرفي. وإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ المعرفة في العديد من موضوعاتها تنطوي على كثير من الغموض والفراغات التي تعكس في جانب منها مشكلة الإنسان في فهم ذاته أو طموحه في بلوغ الكمال والخلود.
الاعتقاد بأنَّ النص الديني يحوي الحقائق العلميّة والمعارف البشريّة كلها لا يقتصر على أتباع دين بعينه، وإنَّما يمثِّل سمة لأنماط من التديُّن التوفيقي الذي يسعى إلى ردم الهوّة بين ثبات النص الديني وتطوُّر المعرفة البشريّة.
إنَّ البحث عن نص ديني يكمل النص الأوَّل هو ظاهرة متواترة في تاريخ الأديان، فالتلمود والمجامع الكنسيّة، والسنّة، جميعها تؤكد استمرار الحاجة إلى نصوص محاذية للنص المؤسِّس. والواقع أنَّ المشكلة لا تقتصر على النص المحاذي من حيث اعتباره "محاولة تكميليّة" وإنَّما تكمن في وجود ثقوب في نظرتنا للنص المؤسس وفق الفهم الرَّسمي للنص الديني.
الخشية من حدوث انفصال معرفي بين الدين والدنيا، جعل الفكر الديني "الشمولي" يستعذب فكرة اشتمال النص الديني على المعرفة الشاملة للوجود كله. ومن هنا تصبح المعرفة البشرية جزءًا من معرفة مطلقة يشتمل عليها النص.
ليست المشكلة في تعدُّد مصادر المعرفة، وإنَّما المشكلة في أن نتَّخذ للمعرفة مصادر غير منتجة تجعلنا نقدِّس أنماطًا جاهزة من المعرفة! وبعيد عن ذلك يمكن لنا أن نجد في التراث الديني بذورًا معرفيّة تساعدنا على تلمُّس المراحل المختلفة التي مرَّت بها المعرفة البشرية. 
إنَّ قوة النص الديني واستعلاء مصدره المفارق جعل كثيرًا من النُّظم السياسية ترى فيه أنموذجًا لفرض تصوُّرات محدَّدة على المعرفة البشريّة ليس في الشأن الديني فقط، وإنَّما في شتى المجالات الدنيويّة كذلك. 
يمكن لنا أن نجد في نظرة القرآن التي تميِّز بين عالم الغيب وعالم الشهادة أنموذجًا للحدّ من الخلط والاستحواذ المعرفي، الذي يمارسه كثير من دعاة الشموليّة الحَرفيّة للنص، على عالم الشهادة وما يشتمل عليه من معارف بشريّة، فالقرآن يشير إلى ثلاث طرق للمعرفة: الحس والعقل والإلهام، الطريق الأوّل والثاني منها مُتاح للجميع "وَاللَّهُ أَخ�'رَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم�' لَا تَع�'لَمُونَ شَي�'ئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّم�'عَ وَال�'أَب�'صَارَ وَال�'أَف�'ئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُم�' تَش�'كُرُونَ"(النحل 78 )، فالمعرفة الحسية والعقلية هما القاسم المشترك بين الناس جميعًا، أمّا المعرفة الإلهاميّة، فهي حالة استثنائيّة طارئة لا يمكن اختبارها أو اكتسابها. وهي لا تمثِّل بديلًا للمعرفة البشريّة بقدر ما تنبِّه على وجود معارف أخرى لم يبلغها الإنسان بعد.