Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    20-Mar-2020

الدكتورةُ

 الدستور-رمزي الغزوي

 
حمرةُ شمسِ المغيبِ المفروشةِ على دروبِ القرية، منحتِ الدجاجات التسعة العاريات، اللواتي يقودهن ديكٌ نِزقٌ. منحتِ المشهد مزيداً من الدهشة وحبَّ الفضول؛ فاصطف كثيرون مبحلقينَ عيونَهم، فاغرينَ أفواههم؛ متابعينَ سرب اللحم الأبيض يحثُّ الخطى، ويدلف بخجلٍ في بيت الدكتورة.
 
الفرصةُ كانت أكثرَ من سانحةٍ لدحضِ كلِّ شكٍّ بقصّةِ العمليةِ الجراحيةِ التي أجرتها أم سعد لدجاجاتها في الصيف الماضي. فآثارُ الخياطةِ تظهرت بشكلٍ جليٍّ في أعناقهن.
 
لم يسأل أحدٌ كيف ستتصرّفُ الدكتورةُ مع دجاجاتها هذه المرّةِ، ولا كيف ستنقذهن من موت محتملٍ ثانٍ؛ بسبب فقدان الريش. بل انبثق التّحسّرُ على هيئةِ سؤالٍ يتوجّعُ: أيُّ سوءِ حظٍّ حلّ بأعزَّ ما تملكهُ هذه الأرملة الوحيدة.
 
صحيحٌ أنَّ أمَّ سعدٍ ما زالت تتولّى علاجَ بعضٍ من أبناء القرية. فتلقمُ جُرحاً فاغراً في رأس صبي حفنةً من قهوةٍ مطحونةٍ، فينقطع خيطُ الدمِ، ويسرعُ الجرحُ في الإلتئام. أو تثبّت بصلةً مشويةً على دمّل نبتَ في باطن قدمِ شابٍ؛ ليكونَ بعد أقلَّ من ساعتين قادراً على المسير. وصحيحٌ أنّها تختصُّ في تجبير كسورِ أيادي الأغنام وأرجلها؛ جراءَ همجيةِ الرّعاةِ، وقذائف حجارتهم الغاضبة. لكنَّ كلَّ ذلكم ما كان سيمنحُها لقبَ الدكتورة.
 
في تلك الظهيرة من شهر آب اللهاب، وجدت دجاجاتِها شبهَ جثثٍ هامدةٍ في حوشِ البيت. ولم تكن تعلم أنّهن كنّ قبل أقلَّ من ساعةٍ في حاكورةِ ساري الحداد، وأكلن حتى التّخمةِ قشورَ عنبٍ، رمتها زوجتُهُ المنهمكةُ في تصنيعِ النبيذِ، كعادتها كلَّ عام.
 
بكت بحرقةٍ، وهي تنتفُ ريش دجاجاتها؛ لتتخذهُ حشوةً لوسادةٍ تذكّرها بعِشرةٍ عزيزةٍ مع هذه المخلوقات الكريمة. بعدها حملتهن بوقارٍ فوقَ رأسها بسلةِ القشِّ؛ لتقذفَ بهنّ في المزبلةِ. وحدهُ الديكُ الأرملُ المكلومُ ظلَّ يلاحقُ خطواتِها البائسةِ؛ ليحرسَ عريَّ زوجاتِهِ وقيامهنّ.
 
في طريق العودة تذكّرتْ يومها الأليمَ في الصيف الماضي، حينما رشّت ابنةُ أخيها بالخطأ حفنتينِ من شعيرٍ أسودَ، تتخذهُ طُعماً ساماً للفئران المخرّبة. البنت اعتقدت أنّها تقدمُ معروفاً لعمتها، التي ستعودُ عما قريبٍ من عين الماء، وما هي إلا لحظات حتى ارتمت الدجاجات في نزاعٍ مع موتٍ نجا منهُ الدّيكُ، فقد كان في جولةِ فحولةٍ خارجية.
 
حال دخولها حاملةً الجرّةَ فوقَ رأسها، هالها المشهدُ المرعبُ؛ فهرعت تتفقّدُ الدجاجات وتسأل. وحين تبيّنت الأمرَ؛ شقّت بشفرةٍ أعناقهن، ونظفت الحواصلَ من الشعيرِ، ثم خاطت كلَّ عنقٍ بخيط رفيع. كلُّ هذا، والبنتُ تصارعُ دهشتها.
 
لمدة أسبوع واضبت على زقِّ دجاجاتها قمحاً مجروشاً منقوعاً بالماء، ليكون ليّناً على الجرح، مع بقائهن حبيساتِ البيتِ بعد العملية، إلا دجاجةً واحدةً كان ظهورُها بعنقٍ مُضمّدةٍ سبباً بشيوعِ الخبرِ في أسماع القرية التي عمدتها باللقب.
 
حين دخلت الدجاجات ساعةَ الغروب بقيادةِ الدّيك، الذي رمقها بنظرةِ غضبٍ؛ صدحت أمُّ سعد بزغرودةٍ شقّتِ المساء. كيف لا، وقد عادت عزيزاتها من موت ثانٍ حسبتهُ الأخيرَ.
 
في هذه المرّة، لم تستطع أن تحبس الدجاجات. ولهذا تمتّع أهلُ زهريت طول الصيفِ، بمشهدِ دجاجاتٍ بملابسَ مزركشةٍ وملونةٍ يجبن الحارات يحرسهن ديكٌ منهكٌ.