Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    29-Nov-2015

فكر اللغة الروائي

القدس العربي-اعتقد أنه من المفيد إثارة الانتباه إلى كتاب «فكر اللغة الروائي» للناقد الفرنسي فيليب دوفور، وذلك بالنظر إلى ما قدمه من آراء وأفكار نقدية ونظرية ذات أهمية بالغة في مجال الكتابة الروائية.
صحيح أن بعض هذه الآراء سبق تداولها في النقد الروائي، لكنهاأخذت صياغة جديدة من منظور جديد أيضا، سواء من خلال البحث النظري في الموضوع أو من خلال تحليل نماذج من الأدب الروائي الفرنسي. الكتاب المشار إليه من ترجمة هدى مقنص وصدر في طبعته الأولى سنة 2011 عن المنظمة العربية للترجمة في بيروت.
ويظهر أن القسم الأول من الكتاب يكاد يكون جامعا لمعظم الآراء التي عرضها المؤلف حول اللغة في الرواية، والقضايا المرتبطة بها، وفي هذا النطاق يرى أن اللغة بشكل عام (في فرنسا) تغيرت بعد الثورة الفرنسية، كما تغيرت مظاهر أخرى اجتماعية وسياسية وثقافية، فتفككت النماذج وطرائق الحديث القديمة وصارت اللغة الحديثة شاملة لمجموع اللغات والأصوات التي ستكون ممثلة في الرواية. هذه اللغة لاقت انتقادات من الكتاب التقليديين لأنها في نظرهم تدنيس وتحقير للماضي وللتقاليد اللغوية التي عرفتها فرنسا قبل الثورة (سانت بوف، شاتوبربان..) في ما أن المدافعين عن الوضع الكلامي الجديد يعتبرون ما حدث تقدما، وليس تدهورا ولا انحطاطا ولا فسادا للغة، يقول فيكتور هوغو: «إن اللغة الفرنسية ليست مجمدة، ولن تتجمد أبدا، إن اللغة لا تتجمد. إن مسيرة الفكر الإنساني لا تتوقف، أو بالأحرى حركته، ومعه اللغات».
وهذا الانتقال الذي عرفته اللغة من النموذج الثابت المكتمل (المرحلة الكلاسيكية) إلى النموذج التطوري في مخيال اللغة هو انتقال من التكرار وإعادة الإنتاج ومخالطة التاريخ إلى إبداع لغة جديدة وفكر جديد يسايران المستجدات (المرحلة الديمقراطية) التي عرفها المجتمع بعد الثورة، أي الانتقال من اللغة الموجهة القائمة على أعراف معينة وقواعد ثابتة وخاضعة للرقابة إلى لغة سقطت معها اليقينيات وقضت على أسطورة وضوح اللغة، لقد «هزت القطعية الأصلية المتجددة باستمرار في قرن الثورات هذا، نهائيا صورة اللغة الواحدة وغير القابلة للانقسام. لقد صار الكاتب يعرف أن اللغة تتألف من رؤى للعالم المتحول».
من هذا المنطلق أطلق دوفور على الرواية التي تأسست على هذا المنظور الجديد للغة «راوية فقه اللغة» وهي كما يرى رواية الشك التي تعيد النظر والتفكير في اللغة، ومن خلالها يمارس الروائي عملا نقديا ضد البديهيات والتمثلات التي كرستها المجتمعات التقليدية.
وفي هذا الاتجاه تحدث المؤلف عن شعرية الحوار، ويرى أن الشعرية الكلاسيكية لم تهتم بالحوار الروائي (نويل، بوالو..)، وبالمقابل اهتمت بالشعراء وكتاب المسرح ومؤلفي الحكايات الأسطورية، بينما ظلت الرواية إلى ذلك الحين جنسا أدبيا ثانويا «مشتقا تافها وخفيفا عن الملحمة، وجنسا أدبيا منحطا». وبين أن أسلوب الحوار يقرب الروائي من كاتب المسرحية، وليتحقق نجاح الحوار لابد أن يختفي الكاتب «يحتاج الحوار إلى وجود الكاتب الخفي، فهو يظل موجودا في الفراغات، في ترتيب الردود. ساهرا على هذا الاتصال الذي يلغي لحظات الصمت الموجودة في الحديث العادي ويعطي الكلام الأدبي حسن القول». وقد بالغت روايات القرنين السابع عشر والثامن عشر في استعمال الحوار، وكان ذلك محط نقد من قبل الكتاب، فدعا فلوبير على سبيل المثال إلى أنه ينبغي عدم الإكثارمن الحوارات الروائية واستخدام الشكل السردي المباشر.
وإلى جانب ما تقدم عالج المؤلف في إطار أشكال التعبير الممكنة لغة الجسد، بوصفها رموزا يتحقق معها التواصل كما يتحقق مع اللغة الكلامية، وغير الكلامية أيضا التي استعملها الكتاب في الرواية وفي مختلف القصص المحكية. وقد حددها في كونها ردود أفعال تعطي للكلمات قيمتها للارتباط القوي الذي يجمع بين الكلام الذي يقال والفعل الذي يصاحبه. فهذه اللغة «هي لغة عفوية ذات أصالة تتعارض مع اللغة الكلامية التي تجمدت في رموز. هي لغة عفوية ذات أصالة، ولكنها غير ممأسسة.. لغة بدائية بانتظار الأفضل». ويؤكد المؤلف أن لغة الإشارة كيفما كانت صورتها فإن معناها يتوقف على ما يقدمه الراوي من تعليقات وتفسيرات، لذا فإنه من خلال جرده لعدد من الألفاظ المرتبطة بالنظرة أو الصوت، يؤكد أن هناك كتابا يترجمون هذه الإشارات ترجمة واضحة (بلزاك، ستانداك، هوغو، وكتابا آخرين يحتارون في ترجمتها (فلوبير، بروست) ولدى كل»كوكبة» ثمة فوارق واختلافات في المخيالات اللغوية.
ويمكن اعتبار القسمين الثاني والثالث امتدادا للقسم الأول واختبارا لهذه الآراء التي عرضها فيه. فقد عالج في القسم الثاني موضوع الواقعية اللغوية من خلال السمات التي تميز لغة المتكلمين في الرواية، وأشكال التعدد الذي يجسد تنوع الشخصيات والميول والنوازع، وما إلى ذلك مما يعطي للغة طابعا تحمل معه (اللغة) انتماءها التاريخي الذي يعكس مظاهر تعدد اللغات، ويندرج في هذا الإطار الرواية التاريخية التي ورثت الهم الواقعي في القرن التاسع عشر، حيث «سيكون الكاتب متعدد اللغات في لغته وسيكون تعدد الأصوات الحوار الروائي» وهي منظومة الأصوات التي تعبر عن طبيعة المجتمع الديمقراطي مقابل «الأصوات المصدوعة» لغات الماضي التي تمثل المجتمع الأرستقراطي (الحقبة الكلاسيكية)، وواصل دوفور في القسم الثالث تحليله لظاهرة اللغة، انطلاقا من الأسس التي عرضها في كتابه، فعالج موضوع الكتابة الروائية من خلال ثلاثة كتاب: ستاندال، فلوبير، وهوغو، وحاول الوقوف على المخيال اللغوي عند كل واحد منهم وتحديد الخصوصيات التي تميزه. وبالنظر إلى عمق تحليل قضايا اللغة الروائية في هذا الكتاب القيم يبقى من الضروري التذكير بأن المؤلف يؤكد على خاصية أساسية، وهي أن ما عرفه القرن التاسع عشر من لغات جديدة تعددت صورها شكلت نقطة انطلاق لمخيال لغوي جديد عرف كيف يستوعب هذا التنوع ويوظفه في تأسيس لغة روائية جديدة في ما سماه «رواية فقه اللغة».
 
كاتب من المغرب
 
محمد غرناط