Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    04-Aug-2020

كتاب «الصورة الكبرى» لشون كارول: العلم وسفينة ثيسيوس

 القدس العربي-حجاج نصار

أصبحت التفسيرات العلمية للكون والحياة تحتل حيزا كبيرا من عقل العالم الحديث، وتستمد قوتها من مناهج العلم والبحث التجريبي، وهذا ما جعلها تتميز بالوجاهة، وتتبوأ مكانة مركزية كمقدمات أصيلة؛ في نظريات شاملة لتفسير الكون والحياة، واحتل روادها من علماء الفيزياء تلك المكانة أيضا، بتقديمهم شرحا لقصة الكون في لغة جديدة كليا، يتألف مدادها، كما سحرها من لغة التجارب العلمية وقوانين الطبيعة، فتختزل الكون الكبير إلى وجود أكثر بساطة وأكثر وحدة، ويأتي كتاب «الصورة الكبرى عن أصل الحياة والمعنى والكون ذاته» لشون كارول – دار التنوير، ترجمة محمد إبراهيم الجندي، على هذا النسق من الكتابات العلمية التي تسعى لتشكيل صورة كبرى عن الكون والحياة.
ففي الكتاب يتشكل أمامنا، إطار نظري لاستكشاف الكون وخلق المعنى من الطبيعة وقوانينها، وهو بمثابة أداة تساعد الإنسان في إدارة سعيه وأسئلته لمعرفة الوجود والحقيقة، ورغم التفاصيل العلمية الدقيقة التي يقدمها كارول في وصف مبسط وشيق للعقل؛ عن نظريات صعبة المنال على المختصين؛ مثل نظرية المجال الكمي، إلا أن الكتاب في مجمله يقدم نموذجا يمكن أن يستخدمه الإنسان في رؤية العالم من منظور جديد، يبدأ من العلم وقوانين الكون، وينتهي إلى رؤية شاملة للصورة الكبرى.
يقوم الكتاب على هدفين أساسيين للكتاب: الأول هو عرض قصة الكون، كما أصبحنا ندركها الآن؛ من خلال تشريح مادة الكون ووصف قوانينه، ففهم مادة الكون هو أساس فهم أنفسنا، والثاني هو تقديم نوع من العلاج الوجودي قائم على «المذهب الطبيعي الشاعري»، وينضوي ذلك تحت فكرة خلق الإنسان للمعنى من الطبيعة ذاتها؛ وليس من خارجها؛ في تجاوز للتفكير في الإنسان أنه مجموعة ضخمة من الذرات الخاضعة لقوانين الفيزياء، وإن كان ذلك صحيحا من ناحية، فالإنسان من ناحية أخرى بشر، يفكر ويشعر ويضفي المعاني على الوجود، في محاولة لرأب الصدع بين جفاف المذهب الطبيعي، بإضافة عين شاعرية له، ترى الوجود وتتحدث عنه وتضفى عليه المعنى.
فيقدم كارول «المذهب الطبيعي الشاعري»، أو ما يطلق عليه «الطبيعانية الشعرية» كناظم لكل مواضيع الكتاب؛ التي تبدأ من الكون كمستوى أكبر، ثم المستويات العميقة للمادة، وينتهي إلى المواضيع الإنسانية؛ مثل التفكير والوعي والاختيار، وأخيرا العلاج الوجودي، فالمذهب الطبيعي الشاعري استراتيجية لرواية قصة الكون، فلا وجود لعالم خارج العالم الطبيعي، وجانب الشاعرية في ذلك المذهب تكمن في أن هناك طرقا عديدة لوصف العالم، فهناك مستويات مختلفة، ولكل مستوى لغة مختلفة لوصفه، فمفردات مثل الأسباب والمسببات، وراء الأحداث هي ظواهر منبثقة، وجزءا من طريقة تعاملنا مع عالمنا اليومي، يشكلها سهم الزمن، ولكن ظاهرة الأسباب ليست جزءا من عمل الطبيعة على أعمق مستوياتها، كما وضحها في الفصل المعنون بالأسباب.
فيرى الطبيعانية بأنها «فلسفة الوحدة والأنساق التي تصف الواقع كله فهي شبكة متناغمة محكمة»، فليس هناك اختلاف بين الكائنات الحية وغير الحية، أو بين الأشياء على الأرض والأشياء الموجودة في الفضاء، فهناك فقط المادة الأساسية للواقع، فوفقا لفيزياء الجسيمات، إن كل ذرة في الجدول الدوري للعناصر هي ترتيب من ثلاثة جسيمات أساسية فحسب: البروتونات، والنيترونات، والإلكترونيات، ويؤكد كارول أن أي جسم رأه أو صادفه الإنسان في حياته، يتكون من تلك الجسيمات الثلاثة لا أكثر.
 
وتأتي أمنية كارول الأخيرة لإدارة الاختلاف في الرأي، فيتمنى ألا يرتكب أبداً خطأ التعامل مع الأشخاص الذين يخالفونه الرأي بشأن الطبيعة الأساسية للواقع، على أنهم أعداء له، فالاختلاف المهم كما يؤكد ليس بين المؤمنين بالله وأنصار المذهب الطبيعي، وإنما بين أناس يهتمون بالكون بالقدر الكافي لبذل جهد صادق من أجل فهمه.
 
ولكنه ينفي أن يكون الفرق بين الإنسان والجماد مجرد ترتيب في جزيئات معينة، «فمن السخافة أن كل ما نراه ونشعر به يمكن تفسيره بواسطة قوانين الطبيعة المحايدة التي تحكم حركة المادة والطاقة»، ومن ناحية أخرى يرى أن وجود قوة عليا يقدم إجابات عن الأسئلة التي نطرحها من قبيل لماذا هذا الكون؟ لماذا نحن هنا؟ ولماذا أي شيء على الإطلاق؟ ولكنه في المقابل يذكر أن المذهب الطبيعي يقول ببساطة إن هذه ليست الأسئلة الصحيحة التي ينبغي طرحها، فالطبيعانية، كما يرى هي «كثير مما يجب فهمه واستيعابه وليست نظرة ينبغي على أحد قبولها بدون تساؤل أو تشكك»، فهي إطار عام للإجابات التي تبحث عنها الأسئلة، وسنجد فيه الإجابات في نهاية المطاف. ويتشابه ذلك مع رحلة في طريق ممتد، تتساوى في بدايته كافة الاحتمالات، وترجيح احتمال على الآخر، يتوقف على ما سيقدمه لك الكشف.
فالطبيعانية في مذهبه تتلخص في أن هناك عالما واحدا هو العالم الطبيعي، العالم يتطور وفقا لقواعد ثابتة هي قوانين الطبيعة، الوسيلة الوحيدة الموثوق بها لمعرفة العالم هي رصده، والشاعرية تبدأ عندما نبدأ التحدث عن العالم، فهناك طرق عديدة لوصف العالم، جميع الطرق الجيدة لوصف العالم يجب أن تكون متسقة مع بعضها بعضا ومع العالم، أغراضنا في اللحظة الراهنة تحدد أفضل طريقة لوصف العالم.
ويطبق ذلك المذهب على «سفينة ثيسيوس» وهي تمرين ذهني قديم يثير تساؤلات من قبيل، إذا تم استبدال أحد الألواح القديمة للسفينة بأخرى جديدة هل ستظل هي السفينة القديمة؟ وماذا لو أخذنا كل ألواح السفينة القديمة واستخدمناها في سفينة جديدة هل ستصبح فجأة هي سفينة ثيسيوس؟ فيذكر كارول أن المنظور الضيق لهذه الأسئلة هو عدها أسئلة عن الهوية، وهي تعنى متى يكون هناك شيء مماثل لشيء آخر، ولكن من منظور أوسع فتعتبر أسئلة عن الوجود، وعما هو موجود في العالم، أي ما هي الأشياء التي لها وجود في الأصل؟
وفى طور الإجابة على هذا السؤال يبدأ بالتفريق بين نوعين من الوجود، فأحدهما ثري وفئاته متعددة مثل المستوى الذي يتكون منه مفهوم «السفينة» والآخر فقير وهو «أن السفينة هي مجموعة من الذرات تمتد عبر الزمان والمكان»، ويستمد ذلك التباين من فكرة الفيلسوف ولفريد سيلارز (1912- 1989) الصورة الظاهرة، وهي النظرة المعتادة القائمة على حياتنا اليومية، والصورة العلمية، وتشير إلى الرؤية الموحدة التي أوجدها العلم. فمفهوم السفينة هو فئة فرعية مشتقة من وجودنا، وليس فئة أساسية، وهى طريقة مفيدة لوصف مجموعة فرعية مشتقة من المادة الأساسية للكون، وأننا ابتكرناه لأنه مفيد لنا، وليس لأنه موجود عند أبسط مستويات الواقع.
والسؤال هو هل ستظل السفينة هي نفسها سفينة ثيسيوس؟ فيجيب: لست أدري.. فالأمر يعود إلينا، فمفهوم السفينة هو أمر خلقناه بأنفسنا لأغراض التيسير والملائمة، وإن كان أعمق مستويات الواقع في غاية الأهمية، فتعتبر الطرق المختلفة التي نملكها للحديث عن هذا المستوى مهمة أيضا. فنلاحظ هنا التوحيد والربط بين الصورة الظاهرة، ومدى حقيقتها بمدى فائدتها لنا، فما دامت مفيدة لنا فهي حقيقة، فهناك ثلاث مستويات من القصص التي نرويها عن العالم، الوصف الأعمق وهو وصف الكون بأكمله بكل تفاصيله متناهية الصغر، ويؤكد كارول أن العلم الحديث لا يعرف ما طبيعة هذا الوصف في الوقت الراهن، ولكننا نفترض أن مثل هذا الواقع الجوهري موجود بالفعل، ثم هناك الأوصاف المنبثقة أو الفعالة، التي تعد صحيحة في إطار بعض النطاقات المحدودة، وهذا المستوى يتحدث عن السفن والأشخاص، وهي الأشياء المرئية التي نجمعها ونصفنها في فئات مستقلة، كجزء من المستوى الأعلى من المفردات، وأخيرا هناك القيم، وهي مفاهيم الصواب والخطأ، الغاية والواجب، الجمال والقبح، ولا يمكن تحديدها بواسطة الهدف العلمي، بل تحددها أهداف أخرى، مثل الصلاح والانسجام مع الآخرين، وأن نجد معنى لحياتنا، ويخلص إلى أن أفضل طريقة لوصف العالم هي جزء مهم من الجهد اللازم لتحقيق تلك الأهداف، والمذهب الطبيعي الشاعري هو فلسفة عن الحرية والمسؤولية، فالمواد الأولية يقدمها لنا العالم الطبيعي، وعلينا أن نجتهد في فهمها وتقبل عواقب استخدامنا لها في الانتقال من الوصف إلى الإدراك إلى التشريع، من «مجرد ذكر ما يحدث إلى إصدار الأحكام بشأن ما ينبغي أن يحدث».
وتأتي أمنية كارول الأخيرة لإدارة الاختلاف في الرأي، فيتمنى ألا يرتكب أبداً خطأ التعامل مع الأشخاص الذين يخالفونه الرأي بشأن الطبيعة الأساسية للواقع، على أنهم أعداء له، فالاختلاف المهم كما يؤكد ليس بين المؤمنين بالله وأنصار المذهب الطبيعي، وإنما بين أناس يهتمون بالكون بالقدر الكافي لبذل جهد صادق من أجل فهمه، وآخرون يضعون الكون في قالب محدد مسبقا، أو يستخفون به ببساطة، وأن الكون أكبر بكثير من ذلك، والسعي لمعرفته يوحد بين أناس ينتمون لطيف واسع من المعتقدات الأساسية المختلفة، فهي مباراة بيننا وبين ألغاز الكون؛ وإذا كان اهتمامنا منصبا على فهم تلك الألغاز، فنحن في خندق واحد إذن.
يُعد كتاب الصورة الكبرى، تمرين ذهني صعب، وإن كان يحتوي على نتائج لا تتفق مع ثقافتنا، فإنه من ناحية أخرى يتطلب الانسلاخ من الرؤى الضيقة والمنظور الواحد للعالم، والإقصاء، واستخدام القوالب الجاهزة، وتجاوز ذلك إلى ممارسة نوع من المرونة والمران المستمر، لاستيعاب الرؤى المختلفة، وتبني السؤال كمنهج أساسي أرسته روح الثقافة العربية على مدار تاريخها، وأقصاه المتأخرون من أصحاب التأويلات المشوهة، فالكون أكبر من أن تشمله رؤية واحدة، بل رؤى متعددة تتعاضد في نظام أشمل قلبه النابض الإنسان وسعيه للحقيقة.
 
٭ كاتب مصري