Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Mar-2019

العدالة الشبكية* إبراهيم غرايبة

 الغد-“يتصرف الناس تجاه الأشياء على أساس ما تعنيه تلك الأشياء بالنسبة إليهم”. هربرت مولر

نشأت المدن حول ساحات (اجورا، زارا، جورا) اتخذتها للتجمع والاحتفال والعبادة والتقاضي والبيع والشراء، ثم اعتبرتها مقدسة، وهكذا كانت المدينة هي الصيغة المؤسسية لأجل العدل المنظم لحياة الناس وشؤونهم في الساحة وحولها. الكلمة تعني في جذرها القانون والعدل، ويبدو أن شبكات التواصل تبعث من جديد الساحة الأولى المنشئة للمدن والمجتمعات والثقافة والفنون والأخلاق والقيم والعقد الاجتماعي، لكنها عودة ناشئة عن الخوف والوعي الغامض بضرورة إعادة العدالة بما هي الرواية الأصلية المنشئة للأمم والمدن، أو هي عودة تمثل الشعور الجارف بغياب العدالة اليوم.
تحولت الساحة إلى ميثاق سلام مقدس بين جميع القادمين إليها إدراكا للعدل بأنه تسوية بين أطراف متنازعة لا تستغني عن بعضها بعضا لكنها تعتدي على بعضها او تختلف فيما بينها، هكذا فإن العدل عمليات معقدة تجري في المجال العام أو هو محصلة متفاعلة للتأثير والقوة والحاجة الى البقاء والارتقاء وتبادل المصالح والمخاوف والتضامن.. وصارت القواعد والمبادئ المنظمة للعمل فيها هي العدل، وهي أيضا مقدسة أو ضرورية، أو هي مقدسة لأنها ضرورية!
هذا الصعود الكبير لشبكات التواصل الاجتماعي يمثل إعلانا يشبه الإجماع على أن المجال العام الذي نشأت فيه التشريعات والقيم والمؤسسات والسلطات والأسواق والعلاقات يحتاج إلى مراجعة أو إعادة صياغة وتنظيم جديد للعلاقات بين الطبقات والمصالح والأفراد والمؤسسات، لكنه في مرحلته الانتقالية والتأسيس الجديد ليس سوى محاولة التعريف أو إعادة التعريف المشحونة بالخوف وعدم اليقين، والحال أن أحدا لا يعرف اليوم كيف نعيد تنظيم العقد الاجتماعي، وليس لدينا سوى التجارب والمعارف والمهارات التي تشكلت في مرحلة تمضي إلى الأفول والانحسار، وإن كان الجديد لا يولد من جديد لكن من القديم، فإن هذه التجربة الآفلة تمنحنا (ربما) دليلا إرشاديا لننظم علاقاتنا ومواردنا.
المسألة ببساطة أن طبقات وفئات واسعة من المواطنين تشعر بالظلم والتهميش وضياع الفرص والأعمال والموارد، وغياب العدل المنظم لتوزيع هذه الموارد، وتلجأ إلى شبكات التواصل تعبيرا عن الشعور بغياب العدالة! وفي ذلك ينشأ جدال؛ لم تتشكل بعد على نحو واضح قواعده المنظمة لأجل التأثير والتوزيع العادل الملائم للموارد والأدوار الاجتماعية والسياسية، لكن في مقدورنا اليوم أن نقدر أن المحرك للمجال العام هو البحث عن العدل، فكل ما يجري في شبكات التواصل في الساحات والتظاهرات واللقاءات والاحتجاجات هو طلب العدل أو التعبير عن الشعور بالظلم، وإذا كان سهلا الشعور بالظلم، فإن معرفة العدل هو التحدي الأكبر.
وبالطبع فإن العدل بما هو الحق لا يمكن إدراكه أبدا، وكل ما نستطيع فعله هو التنظيم العادل لـ “الساحة” أو المجال العام أو أن نتبادل التأثير والعلاقات على النحو الذي يجعل الساحة بما هي الشبكة أو المجال العام تعمل على نحو يفيد الجميع، وباعتبار أن العدل بما هو الحق الذي نعمل لأجله لا يمكن معرفته أو إدراكه، ثم تحول عدم المعرفة إلى مصلحة عامة، هو ببساطة أن أحدا لا يعرف ولأجل ذلك نظل نتجادل، وتظل الحقيقة لغزا غامضا معقدا لا يمكن حله. سرابا أبديا لا يمكن الوصول إليه.
هكذا فإنه لا خيار للمجتمعات والمستضعفين والطبقات الوسطى والجماعات سوى أن تظل حريصة على بقاء المجال العام يعمل بعدالة وكفاءة، ولأجل ذلك تشكلت مقولة إن الطبقة الوسطى تقود الإصلاح، ففي وعيها لما تريد وتحب أن تكون عليه وللفجوة بين ما تريده وما هي عليه أنشأت منظومة من القيم والاتجاهات والأفكار والمبادئ صارت مرشدا للضعفاء والأقوياء معا.
وبطبيعة الحال تتحول شبكات التواصل (كما المجال العام) لتعمل لصالح الأكثر مالا والاكثر تنظيما. هذه قاعدة لا يمكن تغييرها. لكن يمكن بالوعي الصحيح بمصالحنا واولوياتنا وبمنظومة من القيم العادلة ان نجعلها تعمل دائما لصالح الخير العام. الإصلاح الحقيقي هو تغير الوعي!