Tuesday 23rd of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    07-Jun-2019

مفاتيح مملكة السّرد الساحرة

 القدس العربي-لطفية الدليمي

بعد نشر موسوعته الخاصة بالسرد العربي يعود الناقد عبد الله إبراهيم، أحد أهم مرجعيات الدراسات السردية، لاستكمال مشروعه السردي، الذي نذر له عمره مذ كان طالباً يافعاً في الجامعة، وقد جاء كتابه الأخير «أعراف الكتابة السردية» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ليكون مأثرة سردية أخرى تضاف لمآثره التي أثرى بها – ولايزال يفعل – المكتبة العربية والباحثين عن مفاتيح مملكة السرد الفاتنة والغامضة في الوقت ذاته.
يمكن القول إن توصيف السارد، هو التوصيف الأكثر تعبيراً عن الإنسان العاقل في كلّ الجغرافيات البشرية، فالإنسان كائن سردي بطبيعته (ربّما تكون مفردة الحكّاء تمظهراً آخر للطبيعة السردية، في نطاق التواصل الشفاهي غير المكتوب)، وعليه يكون السرد بكلّ أشكاله هو الصفة الأكثر مقبولية وشيوعاً من سواها لتوصيف القدرات التواصلية بين الكائن البشري وسواه من البشر، عبر توظيف الممكنات اللغوية المتاحة، ومن هنا كانت اللغة الوسيط السحري الأكثر فتنة، ما يتيح للسرد تحقيق وظيفته، ابتداءً من الأشكال التواصلية البدائية التي تعزز قدرة استدامة الحياة، وحتى أكثر أشكال السرد تعقيداً في التشكلات المجتمعية ذات البنيات المعقدة.
ثمة العديد من الدراسات الأكاديمية التي تناولت موضوع السرد بتفصيل، ويمكن – مثلاً – الإشارة إلى «مقدمة كامبريدج في السرد»، أو «كتاب كامبريدج الدليلي في السرد»، وهذان كتابان أرى فيهما مثالاً للتناول الأكاديمي الصارم لموضوع السرد الواسع.
يتمايز كتاب عبد الله إبراهيم تمايزاً واضحاً عن الكتب الأكاديمية ذات المنحى التحليلي الصارم، الذي – ربما – لا يفيد سوى قلة نخبوية من الكّتّاب المتمرّسين بصنعة السرد، أو هؤلاء الذين يدرسون موضوع السرد كجزء من متطلبات أكاديمية محدّدة، وأرى من جانبي أن هذه الميزة فضيلة جميلة يستحقها كتاب «الأعراف السردية» لكونه أخرج السرد من فضاء الملغّزات المفاهيمية الثقيلة وجعل منه مادة متاحة للفهم الجمعي الشامل، وينبغي أن لا يظنّ المرء هذه الخصيصة – الفضيلة نأياً عن متطلبات الرصانة التي عرِف بها عبد الله إبراهيم في مصنفاته النقدية السابقة، لكنها رصانة مغلفة بالمتعة الباهرة، وقد أشار المؤلف إلى هذه الجزئية عندما كتب في مقدمته المهمّة: «ولستُ أزعمُ أن هذا الكتاب مُوجّهٌ إلى ناشئة الكُتّاب، أصحاب الخطوات الأولية في قارة السرد، فما لأجلهم وحدهم سلختُ شطراً كبيراً من عمري مصاحبة الظاهرة السردية وتقليبها، بل من أجلهم ومن أجل سواهم من القرّاء الذين يريدون أن يفحصوا تجاربهم في القراءة والكتابة مهتدين بخبرات غيرهم من كبار الكُتّاب، وإلى هؤلاء أضيف الروائيين الذين دمغوا عالم السرد ببصماتهم، وأمسكوا بناصيته، لكنهم أمسوا في حاجة إلى تقليب النظر في ما كتبه أقرانهم أو من سبقهم إلى خوض مغامرة السرد المذهلة».
 
الكتاب خلطة من قراءات عظيمة الحيوية والإمتاع في ميادين سردية محدّدة تعتمد قراءات خاصة لمؤلفها، ما جعل الكتاب يتناول أكبر قدر متاح من الموضوعات السردية التي تشتغل على مادة سردية.
 
ينتمي كتاب «الأعراف السردية» إلى فئة الدراسات السردية التطبيقية، لكنني أرى أن هذا التوصيف أو التجنيس قاصر عن وصف الكتاب، فهذا الكتاب خلطة من قراءات عظيمة الحيوية والإمتاع في ميادين سردية محدّدة تعتمد قراءات خاصة لمؤلفها، ما جعل الكتاب يتناول أكبر قدر متاح من الموضوعات السردية التي تشتغل على مادة سردية (رواية، سيرة ذاتية، مذكرات، تخييل تأريخي، تأريخ أفكار..) بدلاً من الانكفاء على مناقشات تنظيرية عامة، لا يقوى عليها معظم القرّاء إلّا من تمرّس في التنظير السردي واستطابه، وتلك – كما أحسب – فضيلة أخرى تضاف لهذا الكتاب الحيوي الذي سيعزّز عُدّة القارئ (خاصة القارئ الحقيقي الشغوف) من الوسائل والآليات السردية المتطوّرة.
يتشكّل كتاب «أعراف الكتابة السردية» من ستّة فصول وخاتمة. يفتتح المؤلف كتابه بفصل عنوانه (صنعة السرد)، وقد أحسن المؤلف باختيار هذا العنوان – وكل العناوين الأخرى في الكتاب – للإشارة إلى أن السرد صنعة تتطلّب تمريناً وتهذيباً مستديمين كحال أي صنعة أخرى. ثمة براعة مشهودة عُرف بها عبد الله إبراهيم في اختيار عناوين موضوعاته في كل فصل، إذ نلمح في كلّ عنوان قدرة على الكشف المباشر عن ماهية الموضوع، فضلاً عن شحنه بجرعة درامية من الدلالة التي تمسك بالقارئ وتداعب عقله الشغوف بطريقة هادئة رصينة.
جاء الفصل الثاني من الكتاب بعنوان (ثمار الانكباب على الكتابة)، وفيه نرى تناولاً لحشد كبير من أسماء عظماء الفن الروائي: تولستوي، بلزاك، دوستويفسكي، ميلفل، ستندال، فلوبير، جويس، كافكا… أما الفصول الأخرى فقد كانت بالعناوين التالية حسب ترتيبها: الارشيف السردي، طقوس الكتابة السردية الفصاحة السردية الجديدة، القراءة الطرية، واختتم المؤلف كتابه بخاتمة مؤثرة أعطاها عنواناً ينطوي على عبارة (غُشَماء السرد) التي أظنها ابتكارا ممهوراً بتوقيع المؤلف.
ذكر المؤلف في تقديمه للكتاب أنه يرى نفسه أقرب إلى محرّر لمادة الكتاب، بدلاً من كونه مؤلفاً في السياقات التقليدية المتداولة، الأمر الذي تطلّب منه أن يراجع ويفحص قائمة كبيرة من الأعمال السردية المؤلفة والمترجمة، منها ما هو مختص بالأعمال الإبداعية، أو تلك التي تتناول تأريخ السرد أو نظرياته، وثمة قائمة مطوّلة بتلك الأعمال تصلح لوحدها أن تكون مرجعاً دليلياً يرشد القارئ الشغوف إلى ممرات قارة السرد ومتاهاتها، وهذه فضيلة إضافية لابدّ من تسجيلها لمؤلف الكتاب.
كتابُ («أعراف الكتابة السردية» أكبر من كتابٍ يثري المكتبة العربية. إنه كتاب يتيحُ للقارئ الطموح – والمتمرّس في فنون السرد أيضاً – بلوغ مرتقيات ما كان ليبلغها في غيابه، وقد أضاف لي شخصياً فرصة قراءة موضوعات سردية مفعمة بمتعة باذخة وفائدة حقيقية تستوجبان الإشادة بهذا العمل ومؤلفه الذي لا ينفكّ يثري الدراسات السردية بأعماله المميزة.
 
٭ كاتبة وروائية عراقية تقيم في الأردن