Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    07-Jul-2017

"بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم" - د. محمد المجالي
 
 
الغد- أكثر ما يخشاه المؤمن على نفسه أن تصيبه الفتن القاتلة التي تحرفه عن دينه، أو تهبط به إلى مستوى متدنٍ من الالتزام، أو تصيبه سهام الشبهات فيقل إيمانه، ويصبح متأرجحا في معتقده أو سلوكه. فالفتن مذكورة في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي من سنن الله تعالى في عباده أن يعرضهم لها ليتبين الصادق من الكاذب: "أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون؟ ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين"، والله سبحانه يعلم حال أحدنا مطلقا، ولكن العلم المقصود هنا هو علم المشاهدة الذي يقيم اللهُ به الحجة على عباده، فيعرضهم للفتن، فمنهم الصابر المحتسب الذي يدير أزمته بثقة ويقين مع الله تعالى، ومنهم من يضجر ويكفر ويسخط على الله، فيضل ويزل.
ولعل أكثر آيات الفتنة جاءت في سياق الحديث عن المنافقين، فهم الذين يهربون من الالتزام والطاعة لله تعالى بحجة أنهم يخشون على أنفسهم الفتن، كما قالوا معتذرين عن عدم مشاركتهم بغزوة تبوك: "ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني، ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين"، وذكر الله المال والأولاد على وجه التحديد أنهم فتنة: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، فيُفتن أحدنا بهما، ويُختبر أهما أحب إليه أم الله تعالى، في أن يقدّم شأنه عليهما وعلى الدنيا بشكل عام، فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا.
يُفتن أحدنا في أي أمر من الأمور، يعرّضه الله تعالى لبعض المصائب أو المواقف، وهو العليم الحكيم سبحانه، فالمؤمن صابر محتسب واثق بالله تعالى، يتفقد نفسه ابتداء أن لا يكون قد فعل شيئا ما يُغضب وجه الله ليتوب وينيب إليه سبحانه، فنفسه شفافة وقّافة عند حدود الله تعالى، لوّامة تلومه لم فعلت هذا الشيء الذي يغضب وجه الله تعالى، أو لِمَ لمْ أفعل هذا الشيء الذي يحبه الله تعالى، وهكذا، فهو يعلم أن ما أصابه إنما هو من كسب يده: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير". أما الضال والعياذ بالله فلا يبالي، ويسقط في أول اختبار له، فهو يلهث وراء مصالحه وهواه، ولا يهمه شأن دين ولا آخرة، هائم على وجهه يتخبط في غياهب الضلال.
والنص موضوع حديثنا هو حديث نبوي يرويه الإمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا"، وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الإمام مسلم أيضا: "تعوّذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن".
ومعنى (بادروا بالأعمال) أي أسرعوا إلى الأعمال الصالحة التي بُنيت على الإخلاص وحسن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأعمال بهذا الوصف تزيد الإيمان وتوقظ البصيرة وترفع الهمة وتنفض الكسل، وحينها يواجه أحدنا –معتصما بالله- كل أنواع الفتن، فهو على نور من ربه سبحانه. ومعنى (فتنا كقطع الليل المظلم)، أي أنه ستقع فتن مظلمة مدلهمة، لا يُرى فيها النور، ويحتار الإنسان أين يذهب وما المخرج، وهذا الوصف يشمل كل أنواع الفتن ومسبباتها من شهوات وشبهات، فيستهين أحدنا بها، فيقع فيها، وحينها لا يكون بينه وبين الكفر إلا يوم واحد، فبعد أن يصبح مؤمنا يمسي كافرا، أو بعد أن يمسي مؤمنا يصبح كافرا، فقد تمكنت الفتن من قلبه، وحينها يبيع دينه ولو بعَرَض بسيط من متاع الدنيا، والعياذ بالله.
المؤمن صاحب بصيرة ويقين بالله تعالى، لا تحركه أهواؤه ولا شهواته، بل ملتزم بعهده مع الله اعتقادا وسلوكا، فهمّه أن يرضي الله تعالى، وأن يكون من أهل الجنة، فإذا حدثت فتنة ما فيأرِزُ إلى الله ويلوذ به، فلا يتكلم بما يتكلم به الناس ولا يخوض فيما يخوضون فيه بلا علم ولا بصيرة، بل يحفظ لسانه ويصون جوارحه، وإن كان مجال للإصلاح فليفعل، ولكنه يتذكر عموما بأنه صاحب منهج ومبدأ، وشتان بين من يملك الدليل والنور والهدى والفرقان، وبين من يتخبط في هذه الدنيا، ينعِق مع الناعقين ويسير بغير هدى من الله.
تحيط بنا هذه الأيام فتن كثيرة، غالبها من بابيْ الشهوات والشبهات، بل تعدت إلى تكفير الناس وتضليلهم والتشكيك في إيمانهم، وأحيانا في ولائهم، وتدخلت السياسة في شؤون كثيرة فتنت الناس وشتت بوصلتهم، وتعصب كثيرون لبلدانهم وسياساتها ولو كانت خاطئة، وقادهم هذا التعصب إلى زعزعة الأخوّة وشق صف المسلمين ووحدتهم، ووقعوا في محظورات أعظم.
لقد دعا رسولُنا صلى الله عليه وسلم ربه أن لا تهلك هذه الأمة بسنة عامة (قحطا وجوعا)، وأن لا يسلط عليها عدوا من سواهم يستبيح بيضتهم، فاستجاب الله تعالى، إلا أن يهلك بعضُنا بعضا، أي أن يكون بأسنا بيننا شديدا. وهذا ما نشاهده اليوم، حين يكره المسلم أخاه لأتفه الأسباب، وحين تحركنا العصبية والقومية والقبلية، وننسى مبادئ الإسلام العظيمة، وننسى ما وصانا به حبيبنا صلى الله عليه وسلم من تعظيم حرمة الدماء والأعراض والأموال، فننزلق بكل سهولة في الاتهام والقدح وربما القتل والإيذاء.
سقط كثيرون في الفتنة التي نحياها الآن في شأن الخلاف بين بعض الدول العربية، فليقل أحدنا خيرا أو ليصمت، ولنفرق بين الناس وبين حكوماتهم، ونتجنب الأحكام الشمولية على الناس، ونتق الله في كل ما نقول ونكتب، ونخمد النيران ولا نزيدها اشتعالا، ونُسخِّر عقولنا وحواسنا ولا نتأثر بما يُقال فمعظمه خطأ وإشاعات، ولا بد من تثبّت وحسن ظن وإعذار، وإلا نصرنا الشيطان وأتباع مدرسة شاس بن قيس الذي أحيا قديما فكرة التنازع بين الأوس والخزرج، وكان ما كان، ونزل القول الفصل: "يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين"، ونزل: "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا".