Thursday 18th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    29-Mar-2017

في مسارح الظنون - ابراهيم العجلوني
 
الراي - قد تكون كلمة عابرة هي مفتاح الحديث، او تكون خطرة طائرة هي مبتدأ امره، فاذا هو يستفيض بعد ذلك فيستغرق ازمانا وتجارب ومثلات، واذا هو يتدفق في انحاء ما كان في التصور ان يبلغها، فان قلت هو سحر فانه السحر، وان قلت هي ذاكرة ضُربت عليها الاسداد حينا من الدهر ثم تفجرت انهارا فهو كما تقول. وان آثرت منطق الاسباب وقانون الطبائع فقلت لا بد من توافر الدواعي وان خفيت، ولا بد من بواعث للترسل والافضاء ان استسّرت فهو كما تقول. وليس يبعد عن الواقع ان تقول ايضا بان وعي المرء منا طبقات اعلاها والظاهر منها هو اقلها تعبيرا عن حقائق كينونته، وان ما يمور وراء ذلك او تحته هو المعول عليه في تبين هذه الحقائق، كما لا يبعد عن الواقع ان كُلاّ منا يصامت الاخر عن كينونته ولا يجاهره بشيء منها الا فيما يضطر اليه اضطرارا، اذ الاغلب ان صدور الرجال صناديق مغلقة كما يقال، وان البشر لتوافر ما يحذره بعضهم من بعض، وما ينافق به بعضهم بعضا، ولما هم فيه جملة من تخوف ان يظهر احدهم على دخيلة غيره، لا يكون بينهم تلك المصارحة ولا ذلك الافضاء بحيث يقرأُ بعضهم بعضا، وبحيث «يعرف» بعضهم بعضاً.
 
انه «تكاذب» عام نعيشه، ومظهرية زائفة تستغرقنا وتواطؤ شامل على اخفاء ما في الصدور. فاذا ما اتفق لاحدنا ان تستخرج كلمة عابرة ما احتبسته الاقفال في اعماقه، او ان تتحرك خطرة طائرة مكامنه، فان من خطل القول ان نقول انها القشة التي قصمت ظهر البعير، فالبعير مُثقل بأحماله ولم يعد في قوس صبره منزع، وما شقشقته ولا رُغاؤه الا ترجمة عن فداحة ما يجد، ولو ملك الكلام لأفصح عمّا هو فيه ابلغ الافصاح.
 
على ان مما لا يفوت الناظر المتعمق دركه ان ما نحن فيه من مصامتة يُخفى انواعا مختلفة من الحقائق والمضامين، معظمها لا غور له ولا اعماق ولا جواهر ولا اعلاق. واقلها ما ينبئ بأشياء من ذلك. وهنا نستذكر ما كان من احد الحكماء حين لاحظ ان احد مُجالِسيه ساكت لا يتحدث فقال له: «مالك لا تشاركنا النقاش؟»، قال: «اذا كان الكلام من فضة فان السكوت من ذهب». فقال له الحكيم: «يا لَك من مزوّر عملات!».
 
وبعد فنحن جميعا نكتم شهاداتنا عن انفسنا ونُخفي من حقائقنا اضعاف ما نعلن، ونادرا ما نكسر قشرة اسطح ذواتنا فنطلع على ما فيها. وكم في ذلك من خسران للعلم وللاخلاق في آن.
 
ويزعمون بعد ان ثمة «علم نفس» قادرا – من مجرد ملاحظة ظواهر السلوك – ان يجزم ببواعث ما يكون من هنا او ذاك من بني الانسان، ألا انهم ليضربون في مسارح الظنون، وما الظنون بِمُجزِيةٍ بحال عن يقين.