Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Sep-2022

نجيب محفوظ وسيد قطب وتغطية الشمس بالغربال

 الدستور-محمد سلّام جميعان

 
كلاهما؛ المُحِبّون والخُصوم بالَغوا في تبجيله وفي إدانته، فسيّد قطب شخصيَّة إشكاليَّة في الأدب والسياسة والدِّين، ومُحبّوه وخُصومه اختزلوه في كتابه «معالم في الطريق» وفي تنظيراته الدينية، وصادروا في نظرهم وحجبوا عن أعينهم رؤية سيد قطب الناقد الكبير والشاعر الرومنسي والمفكر الحرّ، ورأوا فيه السجين المعذَّب أو الانقلابيّ الذي يستحق رأسُه القطاف، مع بعض الاستثناء القليل جداً عند الفريقين. فكلمّا هبّ الهواء بذكرى الضّحية والجلّاد يُعاود الفرقاء سَنَّ الأقلام في الإدانة والتبرئة بخطاب مُغلَق، مستعينين – ضمناً- بكتاب عالم النفس الفرنسي جوستاف لوبون «علم نفس الحشد» وللعنوان ترجمة أخرى هي « روح الاجتماع»، لتأليب الجماهير أو حشدها، فهؤلاء يعدّونه من الأبرار وأولئك يرونه من الأشرار.
 
وآخر ما وقفتُ عليه ما خرج علينا به وزير ثقافة عربي سابقمن قوله: (كل الكتابات التي قالت إنَّ سيد قطب كان أول من كتب عن نجيب محفوظ وتنبّأ بحصوله على جائزة نوبل كاذبة وغير دقيقة) بحسب تعبيره. وقريباً من هذا القول ما سطّره قلم رئيس تحرير مجلة ثقافية كبرى، وهو يتحدّث عن الانتقالات الدراماتيكية لسيد قطب (من تقليد العقاد ومحاولته أن يكون محسوباً عليه كأحد «أنجب وأخلص» تلاميذه، إلى الارتداد على العقاد ومهاجمته، لأنه لم يحصل منه على ما يريد). وليسمح لي القارئ بتتميم قول رئيس التحرير: (وكتابة قصائد متوسطة القيمة لم تضعه على خريطة الشعر، ثم الذهاب إلى النقد الأدبي الذي لا يُذكر له فيه إلا أنه كتب مقالاً عن نجيب محفوظ... بالرغم من أنه ما من أحد إلا وكتب عن نجيب محفوظ).
 
هكذا تُصدِر النُّخب الثقافية أحكامها مُتخفِّفة من التاريخ في تصوراتها، لصالح سجالات وحسابات سياسية ولغة مُدبَّبة وحيدة البُعد، تستبعد كافة الحقائق والأفكار وما نطقَ بها عصر سيد قطب وشخصيّاته التي عاصرها وعاصرته. وما يعنيني هنا سيد قطب الأديب والناقد، أما مشروعه الديني فأمره موكول للفقهاء والمفسّرين وأهل الدراية بالشريعة.
 
ليس أسهل على النخب الثقافية في بلادنا العربيّة من نصب المقصلة الأدبية وإصدار حكم الإعدام الأدبي كما يشتهي ذوو السلطان، والأمر لا يحتاج لأكثر من الانتقائية والعشوائية والشطح والمغالاة والتخلّي عن الشجاعة الأدبية مع الأنصار والخصوم على السواء.
 
لن أتوقف كثيراً عند علاقة سيد قطب بالعقاد. فمن حق المُريد أن يخرج على شيخه في الأدب والسياسة إذا كان يملك مسوِّغات هذا الخروج، والتاريخ مليء بالشواهد في الأدب والسياسة واللغة والعلوم الكونية، عند العرب والعجم، فقد خرج يونغ على أستاذه فرويد في نظرياته النفسية، وناهض كوبرنيكوس بطليموسَ في رأيه عن مركزية الأرض، وخالف ابن حزم فقهاء عصره وخرج عليهم واختطّ لنفسه المذهب الظاهري، وخرج الكسائي على أستاذه في النحو الخليل بن أحمد الفراهيدي، وارتدّ محمد رشيد رضا على أستاذه محمد عبده... والشواهد كثيرة لمن يؤمنون بالإبداع ويتجافون عن الاتِّباع. فأن يخرج سيد على العقاد ويرتدّ عن مذهبه في الشِّعر والنَّقد بعد أن خاض معه معارك أدبية، فهذا دليل على نضج سيد ونزعته الحادة في قتل الأب واستقلاليته الشخصية، وفي هذا الصدد يقول سيد: (فليس بتلميذ أصيل في مدرسة العقاد من يغفل عن نفسه ليقلده، ومن يسلك طريقه، ولا يستمد من النبع الخالد معه، لأنه إنما يضع في هذا السلوك سمة المدرسة الأصلية، وهي سمة الاستقلال في الأخذ المباشر عن الحياة).
 
ويقول الوزير: (محفوظ بدأ كتابة الروايات عام 1934 فكيف لم يكتب عنه أحد قبل سيد قطب في عام 1947؟) فكيف يجهل سعادة الوزير تاريخ بدء محفوظ في كتابة الرواية، فقد صدرت روايته الأولى «عبث الأقدار» عام 1939، ثم تلتها رادوبيس عام 1943 وكفاح طيبة عام 1944 فيما عرف فيما بعد بالثلاثية، ثم تلتها رواية القاهرة الجديدة عام 1945. وسيد قطب قبل أن يكتب عن نجيب محفوظ روائياً، كتب عن مجموعته القصصية « همس الجنون» التي صدرت عام 1938، وأشاد بها، لكنّه أشار على محفوظ أن يترك الانشغال بفنّ القصة ويتَّجه إلى كتابة الرواية، فإذا فعل ذلك سيكون له شأنٌ عالميّ في عالم الرواية. ثم بعد ذلك انتصر له روائياً في أول تناول له لرواية.ففي العدد 587 من مجلة الرسالة الصادر في 2/10 / 1944 كتب سيد قطب مقالاً حاراً رحّب فيه برواية «كفاح طيبة» وهي من بواكير إنتاج نجيب محفوظ، ومما قاله سيد قطب في حقّ هذه الرواية: «لو كان لي من الأمر شيء لجعلت هذه القصة في يد كل فتى وكل فتاة، ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان، ولأقمت لصاحبها، الذي لا أعرفه، حفلة من حفلات التكريم».
 
كما كتب سيد قطب مقالاً ثانياً عن رواية «خان الخليلي» في مجلة الرسالة عدد 650 في 17 ديسمبر 1945. ثم يكتب سيد قطب مقالاً ثالثاً عن رواية «القاهرة الجديدة» في مجلة الرسالة عدد 704 في 30 ديسمبر 1946م وفيه يستنكر ما وصفه بغفلة النقد في مصر، إذ كيف تمرُّ هذه الرواية دون أن تثير ضجة أدبية أو ضجة اجتماعية، ثم يقول: إن أعمال نجيب محفوظ هي نقطة البدء الحقيقة في إبداع رواية قصصية عربية أصيلة، فلأول مرة يبدو الطعم المحلي والعطر القومي في عمل فني له صفه إنسانية.
 
وأكتفي هنا بشهادة نجيب محفوظ نفسه في مذكراته لمن يغطّون الشمس بالغربال، يقول نجيب محفوظ: «وبرغم الخلاف الفكري بيني وبين قطب فإنَّني كنت أعتبره حتى اليوم الأخير من عمره صديقاً وناقداً أدبياً كبيراً كان له فضل السبق في الكتابة عنّي ولفت الأنظار إليّ في وقت تجاهلني فيه النقاد الآخرون». ولا أظنُّ أنّ الوزير ورئيس التحرير كليهما في غفلة عن شهادة محفوظ هذه، أو بها لا يعلمون، ولكنَّهم تغافلوها وأغفلوها تعميةً على الحقيقة الأدبية وإيثاراً للعمى السِّياسي، متناسين هنا أنهما ظلما سيد ومحفوظ معاً بكتمهما الشهادة، وترويجهما أن سيد لم يكتب عن نجيب محفوظ إلا مقالاً واحداً، هو حصيلته في النقد الأدبي، متغافلين أكثر عن كتبه النقدية، ففضلاً عن كتابه»كتب وشخصيات» ومعاركه النقدية ضد مدرسة الرافعي، ومقالاته الوفيرة في صحف ومجلات ذلك الوقت، فإنَّ كتابه: (النقد الأدبي: أصوله ومناهجه، الذي صدر عام 1948، يعدُّ كتاباً رائداً في النقد،بشهادة رجاء النقاش حين اعتبر محمد مندور وسيد قطب فارسين كبيرين من فرسان النقد (صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر). وكذلك ردَّ رجاء النقاش نظرية الأداء النفسي التي نادى بها أنور المعدّاوي إلى تأثيرات عدد من النقّاد على رأسهم سيد قطب. فضلاً عن شهادات كبار الكتاب أمثال محمد يوسف نجم ومحمد النويهي.
 
أما مقولة أن قصائد سيد الشعرية متوسطة القيمة، فتلك فرية مفضوحة، وكِذْبَةٌ بلقاءُ مشهورة، نكتفي بإحالة قائليها إلى شهادات أهلِ عصره من الأدباء المعتبرين، وعلى الأعمال الشعرية الكاملة لسيد قطب بتقديم المفكّر حسن حنفي (مركز الناقد الثقافي- دمشق، 2008). ولكنّنا في الوقت نفسه نتحفّظُ على إسقاط كثير من قصائد قطب بدعوى تبرّؤه منها، وخاصة النسخة التي أصدرتها دار الأهرام في جزأين عام 2011. فالقيمة الأدبية للأديب لا توزن بميزان السياسية، ولا يوزن الأدب بميزان الدين. وقليلاً من الحِشْمة أيّها المُحبّون ويا أيُّها الكارهون.