Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    06-Mar-2020

المرأة البلاد.. الأسرار والمفاتيح في «حبيبتي السلحفاة»

 الدستور-أنوار الأنوار/ كاتبة من الجليل

النساء مفاتيح: مفاتيح الوعي المتبلور أحلامًا أو معرفةً، مفاتيح الحبّ والعاطفة الجياشة، مفاتيح الجسد والشهوة البِكر، مفاتيح الحكاية والذاكرة والخلاص، بَيد أن المفاتيح تختبئ وتلوذ في أسرارها. تكتسي قواقعَها ودروعَها وجدرانها السميكة خوفًا من عالم لا ينصفها قابل لسحقها في كلّ لحظة.
هكذا يرسم الراوي في «حبيبتي السلحفاة» حكايته، إذ يسعى لمحاكاة سلاحفه بالاختباء من الحياة ومن الدَّين الثقيل، فإذا منه تفيض أنهار البوح لتتدفق ثمانٍ وثمانون عينًا (بابًا)، من كل عين تطل شخصية تلوح ببعض الصور لتتكامل الحكاية فسيفساء أنثوية تحمل فيها المعاني، وتتجلى صور المرأة الحب، والمرأة السر، والمرأة الذاكرة، والمرأة البلاد أيضًا.
في كولاج من حبّ وجسد، ومن ذاكرة لا تخون وطنها فيها، يكتب محمود عيسى لقارئٍ مجتهدٍ، فهو لا يعِد قارئه بشخوص تتشكل أمامه وتتنامى عبر وصف أو حدث تقليديّ، ولا بحكاية يتابعها حبكةً واضحةً أو ترتسم سبرًا لمشاهد روتينيّة، بل ما أن يلوذ الراوي بالاختباء حتى تتكشفوتنساب منه الشخوص متدافعة متتالية. يعرض كلًّا منها على عجلٍ ناحتًا مَشاهدها صوتًا وهيئةً وروائح، ثم يسارع للإلقاء بها ولقاء من تليها من المتدفقات، كما لو كنا نشهد عرضا مسرحيا لنساء حياة الراوي اللاتي بصَمن في تكوينه ووقّعن أختامهنّ.
كأن السرد شعر وكأن المرأة ظلّ القضية وخيطها المقطوع. والقارئ مطالَب بالصحو واليقظة لالتقاط الخيوط وإعادة نسجها ليكتمل الثوب: ثوب شعب ورث أوزاره فصارته.ورث ديونه الثقيلة، في وصف تمتزج فيه الذات الفردية والجمعية، ويشدّ تلابيب القارئ منذ مطلع الرواية حتى نهايتها فلا يملك الإفلات.
يقول الراوي في مستهلّ بوحه كمن يرسم حالتنا:
«اختبأتُ في صندوقي العتيق
اختبأت من غدي...
من أمسي...
حسدت السلحفاة على درعها وحسدتها على الاختباء.
اختبأت في الحياة من الحياة»
بلغة تبدو إحدى الشخوص الفاعلة والحاضرة في الرواية، لغةٍ لا تشبه ولا تتشبّه، كما عهدناه من قبل في حنتش بنتش أو الشمبر وغيرها، إذ نتابع على امتداد الرواية كيف تنتسج اللغة وتتكامل ملامحها كائنًا حيًّا نابضًا، تعلو وتهبط بين الأنساق المتعددة مثل روح تحسّ وتزهو وتعشق وتشتهي وتتذكر وتحزن وتبكي وتنزف وتنتحب وتلوذ وتطلّ.. بحركةٍ حرّة منطلقة تمتح خيطانها من أعلى الطبقات والأنساقتارةً وتغرف من عمق المحكية الأصيلة تارةً أخرى، لتغزلها في ثوبٍ لا يعرف النشاز. فلغة محمود عيسى قادرةٌ أن تجاور كل النقائض بتوليفةٍ متآلفة، لغة ترسم الجغرافيا والأماكن وتتدفق فيها الأحداث والتفاصيل وتتحرّق الأشواق إلى البلاد لتلخص حكاية الفلسطينيّ من النكبة والنكسة والهجيج والمخيم وبطاقات التموين وخيانات الدول،إلى الأمل الذي لا يخبو بالعودة! يظل مشتعلا بجذوته متأجّجًا يحلف أن العودة قريبة «وإن هي إلا ثلاثة أو أربعة أيام»، مستعينًا على وهجه بروائح فلسطين من المريمية إلى الزعتر إلى التين والزيتون وشموخ الكرمل وخضرة مرج بن عامر إلى باب السر وشاحط الشباك والسدة وقطرميزات المخلل .. وأجيال تورث أجيالا ما ينزّ رويدًا، ثمّ ينساب مرّة ويتدفق مرات.
تنعجن اللغة بين يدَي كاتبنا لتنبش أسرار الحكاية وتلوّن ربيعًا يلحّ بأنه يومًا ما سيزهر.
في بوحٍ أشبه بالتداعي الحرّتنهال الأفكار، في سَيلٍ للصور وانسكابٍ للشخوص والأحداث والذكريات. يبدو الراوي وقد أشرع باب البوح لما يحمل من قصص وحكايا وأسرار لا تغيب منها الأغاني ولا تنقصها الأمثال والأشعار ولا يفتر فيها وهج السرد.. ينهمر بحكاياته، يلقي بها في أحضان قارئه.. ويعيد تذكيره بقانونه وقاعدته: لا تهدأ ولا تستكن أيها القارئ. تسلح بذائقة تعرف كيف تدرك خفايا الكلام، وذهن يتوقد متقنًا سرّ التضفير والتجديل.. ذاك أنك أمام نبع من الكلام لن تلتقط معانيه إلا إن أجدتَتشكيل الجديلة من قطراته: جديلة الحكاية الفلسطينية، حكاية النساء اللاتي عجنّ روح الراوي وبلوَرن وعيه وشكلن ملامح فكره وتكوينه..حكاية مَن نسَجن لوحاته ولوحات تاريخ وذاكرة جمعية في آن، فكُنّ مرآة البلاد.
وكاتبنا وفيٌّ للفنان التشكيلي فيه فهو لا يكتب إلا والريشة حاضرة بالتجسيد حينًا، وتجريد الملامح أحيانا وبالإيحاء أحيانا أخرى. يطبطب على المتأمل بأن لك أن ترى الكثير مما قد يبين أمامك جليًّا لكنك لن تبلغ النشوة إلا إن رأيتَ ما تخفّى وراء الكلام.
نعم.. النساء مفاتيح وأسرار..
وعليه لا يكتفي الراوي باستحضار من عاصر أو عاشر من النساء بل ينبش في عمق التاريخ البعيد أيضا، كما ظهرت علينا خولة بنت الأزور إذ تخلّص الأسيرات من الروم.
كأن الكاتب يهمس إلينا ويشير أن الخلاص يبدأ من المرأة. هناك سر الحكاية وسر القضية التي لا تتوقف عن النزف واستحلاب من لم يولدوا بعد بأمل النجاة. كيف لنا بالخلاص ما دامت نساؤنا سلاحف تختبئ في قوقعتها حبيسة الخوف من الحياة الساحقة؟ هل يكون الخلاص والأمل الحق حين تخرج السلاحف وتنطلق حرّةً من خوفها حرّةً من ذاتها حرّةً من كل ما يثقلها؟
لعلها المقولة المختبئة في ثنايا الرواية. من المرأة يبدأ السر وفيها ينتهي مفتاحه فتعالوا نبدّد الخوف لتتجاوز السلاحف دروعها وجدرانها السميكة، بل كأن البلاد كلُّهنّ، هي شبيهتهنّ في الأسر وفي الحمل الثقيل من أوزار وديون، وهي مثلهنّ ستمضي نحو حريتها كما جاء  في لوحته الأخيرة:
«بعد سبعين سنة حلمت أن السلاحف التي أحببتها تمشي نحوي مشيًا منتظمًا.
كان الطابور بعيدًا عني وكنتُ عند خط الأفق. بان كنقطةٍ خضراء داكنة. لأن مشية السلاحف المنتظمة كانت بطيئة فقد انتظرت ردحًا.
ثم راحت تتقدم خطوةً خطوةً كجيش جرّار حتى رأيتها تقترب مني وتظهر ملامحها أولا بأول..
...إلى قوله:
«حتى صار أفق الطابور العسكريّ مرجًا فسيحًا. خلعن بزّاتهن الخضر، ألبسنه بساطًا أخضر للأرض فبدا كأنه البساط الربانيّ الذي ألبسه الله وفرشه فوق أرض مرج بن عامر، وأرض البحر.  تماوج بساط سلة الدنيا.
تماوج الأمواج في البحر القديم من حيفا حتى جبل طارق.
اقتربت سلاحفي قاب قوسين من كرملي.. أعادت الروح.
كأنّ الطبيعة خرجت من البيضة التي باضتها الحمامة البيضاء (إجزم).
كأنّ البيضة انقسمت إلى نصفين أحدهما من الفضة والآخر من الذهب.
الفضيّ صار الأرض والذهبيّ صار الفضاء، فضاء بلادي..»
هكذا يختتم محمود عيسى حكاية المرأة البلاد، بما تمتلك من جمال وقوة وبهاء وخضرة وشهوة، ومن اختباء من ثقل الحياة أيضًا.. في صرخةٍ عميقةٍ تتجمّع بهدوء في قارئها نقطةًنقطةً، حتى تنفجر في أعماقه بأن الأمل لا يموت، لا يخبو ولا يذوي، لكنه أن يحتاج خلع كلّ تلك البزّات كي يفرش الأرض والسماء بالحرية.