Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    16-Nov-2017

مسرح الشمس يضيء صالته الجديدة بعرض كوميدي يتصف بالجدية التامة

 

وليد أبو بكر
 
عمان -الغد-  قد لا تكون مسرحية "ادفع، لا تدفع" معروفة عربيا على نطاق واسع، بقدر مسرحيات داريو فو الأخرى، التي ترجمت وعرضت عربيا غير مرة، خصوصا مسرحيته الشهيرة "موت فوضوي صدفة"، ولكن هذه المسرحية، التي يعرضها مسرح الشمس في عمان، قادرة على أن تمثل واقعا يعيشه المواطن العربي، كما يعيشه أي مواطن فقير في زمن العولمة، الذي تغولت فيه الثروة ونهم أصحابها، وتغولت ممارسات البنك الدولي، في امتصاص كل ما تبقى من فقر الفقراء، عن طريق غلاء الأسعار الذي لا يتوقف عن التصاعد بشكل دوري، وعن طريق المزيد من الضرائب التي لا يستريح من يستمرون في فرضها. وقد بلغ من شدة تأثير هذه المسرحية أن تحولت (بعنوانها الإنجليزي: لا أستطيع؟ لن أدفع!) إلى شعار جماهيري في بعض البلدان التي اقتربت من الإفلاس، وذلك خلال فترة التقشف التي فرضها البنك الدولي أو الاتحاد الأوروبي.
اختيار هذه المسرحية للإعداد، ثم للعرض، لم يكن عفويا. وإذا كان المخرج د. عبد السلام قبيلات أكد هذا التوجه في كلمته القصيرة التي سبقت عرض الافتتاح، حين أشار إلى أن أعمال داريو فو تختلط بالناس، وتستقي روحها منهم، ثمّ إلى أن مسرح الشمس يتطلع إلى ذلك، فإن العرض نفسه، الذي يتحدث عن عاملي التغول ضد الفقراء (الأسعار والضرائب) يمكنه أن يؤكد ذلك أيضا، لأن الشكوى من هذين العاملين ظاهرة تكاد تكون عامة في هذا العصر، خصوصا في البلدان التي تشكو من ضيق ذات الموارد، أو من سوء توزيع الثروة، الذي يستهلك هذه الموارد. 
في النظرة السطحية، يمكن رؤية كثير من روح التهريج في هذا العمل، كما هو معروف عن مسرح فو. هناك نوع من الألعاب المسرحية التي يمكن أن ترى مثل تصرفات مجانية، إذا كانت غير قادرة على أن تربط وجودها بالواقع، وذلك بأن يحولها العرض المسرحي إلى سخرية مريرة من هذا الواقع، باعتباره مما لا يحتمل، وهي سخرية تحمل في معانيها نوعا من المقاومة، من السهل أن يتم التعامل معه بجدية، عند توجيه نظرة عميقة إليه.
يقوم الفعل الأساسي في العرض على حادث يمكن أن يعتبر غريبا: احتجاجا على غلاء الأسعار، رغم الإعلان عن التنزيلات، تقوم آلاف من النساء بمهاجمة المول الذي يقع في حيهن، ولا يتوقفن إلا بعد الاستيلاء الكامل على كل ما فيه، ونقل ذلك سرا إلى بيوتهن، دون معرفة أزواجهن. ولأن الحادثة تشكل سابقة في الحي، فإن أصداءها تنتشر بسرعة، وتلق الرجال المستريحين في بيوتهم، انتظارا لطعام لا يجهز. ولأن الثروة لا تستطيع أن تنمو إلا من خلال تفاهمها مع السلطة، فإن المول يكون محميّا بالضرورة، ولذلك تجند السلطة شرطتها لتفتيش بيوت الفقراء بحثا عن المسروقات. لكن العملية تكشف أن الشرطة نفسها تكون لها أحوالها الخاصة عندما تستخدم عقلها، باعتبارها جزءا من المجتمع الذي يعاني، ويكون موقفها مدعاة لتساؤل الفقير الخائف، الذي جعلته تجارب عمره غير قادر على أن يمنح ثقته للسلطة ولا لمن يمثلها: هل يمكن وصف الشرطة بأنها ثورية، أم أنها تحاول أن تستدرج الناس بالكلام، حتى توقعهم وتكشف ما يضمرون؟ 
الإحساس بالعمق، في الحدث الساخر الذي يثير الاستغراب، الذي يتمثل في هجوم النساء، يبدأ عند المتلقي من السؤال البسيط: لماذا تقدم النساء على مثل هذا العمل، دون الرجال الذين يفترض أن يحموا عائلاتهم من الحاجة، وأن يوفروا لها وسائل العيش، حتى لا تكون هناك ضرورة تدفع إلى السرقة؟ 
يستطيع العرض بمجمله أن يجيب على هذا السؤال ببطء وتدرج، وهو يكشف أن طبيعة المجتمع، كما أرادتها الظروف الضاغطة، خلقت فيه ما يشبه تبادل الأدوار. من خلال مراقبة سلوك الرجال ـ أزواج اللواتي أقدمن على السرقة كنماذج ــ سوف يتضح أن سطوة السلطة زرعت فيهم خوفا لا يستطيعون الفكاك منه، وبسبب ذلك تخلوا عن أدوارهم الطبيعية، فكان على النساء أن يمتلكن الجرأة على التقاطها، حتى وإن كانت الحالة تقلب الأوضاع المعتادة، لتوحي بقدرة السلطة، عن طريق ما تملك من قوى ضاغطة، اجتماعيا واقتصاديا، على قمع روح المقاومة لدى كل من يفترض أن يكون مؤهلا لها، أو مخولا بها. ومثل هذا السلوك لدى الرجال لا يكتفي العرض بكشفه مع فعل السرقة الأساسي، وإنما يستمر في التأكيد عليه من خلال تفاصيل صغيرة أخرى، لعلّ أبرزها تلك الغيرة المفتعلة على النساء، وهو بالتالي لا يكشف الرجال بقدر ما يكشف عسف السلطة التي تبذل جهدها في تطويعهم، أو تطبيعهم، حتى تجردهم من الاهتمامات المحتملة لوجودهم كرجال.
رموز وألعاب
ليس المول في هذا العرض مجرد مكان للبيع: فكما تشكل الشرطة رمزا للسلطة، فإن المول يشكل رمزا لوضع اقتصادي يساهم وجوده في معاناة الفقراء: إنه مكان تتراكم فيه السلع الاستهلاكية المغرية، التي تشكل أمثلة على ما تشجع العولمة والتجارة الحرة على رواجه، وتعويد الناس على التعامل معه، من أجل استمرار السيطرة عليهم، ديونا وضرائب. كما أنه رمز للثروة التي تحكم الحياة اليومية للناس بكل قسوة، عن طريق رفع الأسعار بدرجات لا تسمح لهم مواردهم الضئيلة بأن يجاروها، وهم حين يخضعون لهذا الإغراء، يفعلون ذلك على حساب ضرورات أخرى، وبذلك يتخلفون عن دفع حقّ الحكومة من فواتير للماء والكهرباء وغيرهما، لينتهي الأمر إلى قيام السلطة بتهديد كل ما يملكون: فإما دفع مستحقاتها أو التوقيع بالتنازل عن الأملاك.
ولأن الفعل الأساسي (السرقة العامة) غريب، فإن كل ما ينتج عنه لا بد وأن يكون من النسق ذاته، بهدف التماهي معه، وذلك ما يغطي جميع الأحداث الفرعية بعد ذلك: من إخفاء المسروقات تحت أردية النساء، وكأنها حمل، يقع على امرأة سبق للطب أن أكد لزوجها أنها عاقر. ومن هنا تبدأ سلسلة متوالدة من المشاهد التي تستند إلى "سوء التفاهم" بين شخصيات العرض، وهو ما يشكل أساسيات الحس الكوميدي فيه، عن طريق بناء مواقف تثير الضحك بشكل متواصل، يشكّل الحوار السلس لحمته، خصوصا عندما كان يدور حول أمور تكون مكشوفة للمتلقي في الصالة، مع وجود خلاف في استيعابها بين المتحاورين، مثل ذلك الحوار الشديد الحساسية بين المرأة التي تتظاهر بالحمل وجارها المسن الذي يظن أنها تخفي حملها عن زوجها بمشدّ من نوع ما، يطالبها بأن ترخيه وفي ذهنه أن يرتاح الجنين، بينما تفهمه هي كطلب فيه تحرش تثير استغرابها، وهو ما يستمرّ بعد ذلك، بسوء تفاهم مشابه، خلال الحوار بين زوجها والجار نفسه. 
إن العرض، من روح السخرية التي تسوده، يقدم نفسه للمتلقي على شكل مجموعة من الألعاب المسرحية البسيطة، مستندا إلى الحوار كبطل أساسي يكشف ما يكمن وراء هذه الألعاب. ومثل هذا التقديم يحتاج إلى ممثلين قادرين على توصيل الحوار بدقة، بهدف توصيل المقولة الشاملة للعمل كله، خصوصا وأن العمل الكوميدي كثيرا ما ينظر إليه مجردا من المقولة، وهو رأي لا ينطبق قط على أعمال داريو فو.
كان واضحا أن اختيار مجموعة الممثلين اهتمّ بالقدرة التي يحتاجون إليها في الأداء، فلم يكن مطلوبا منهم أن يكثروا من الحركات التي غالبا ما تستخدمها الكوميديا العربية بشكل مبالغ فيه. كانت الحركة على الخشبة معظم الوقت متوازنة مع إيقاع الحوار ذاته، مساندة له، دون مبالغة تحيلها إلى أمر مقصود بذاته، وهو ما يوحي بفهم المخرج وممثليه للنص الذكي الذي يقدمونه، ولحساسية ما يختفي وراء سخريته من أفكار.
كل الحكايات الجانبية الصغيرة التي يقدمها العرض، يفترض أن ينظر إليها كلبنات في البناء الكوميدي الذي يقوم عليه، سواء ما تعلق منها بحالة التظاهر بالحمل، وما رافقها من ادعاءات طبية ترويجية لتقدم الطبّ (على لسان رمز السلطة)، إلى الاستمتاع بتناول طعام الكلاب والقطط والعصافير، في غياب الطعام الآدمي، حتى الوصول إلى حالة الفقر المدقع، التي تستلزم تهديدا بالدفع أو التوقيع. وما برز من مبالغات في هذا الشأن هو جزء من الكوميديا التي تنتسب إلى الفارس، خصوصا مع تذكر أن مسرحية داريو فو هذه تصنف تحت لون "الهجاء السياسي".
إن المسرحية لا تكتفي بانتقاد الثروة على استغلال الناس برفع الأسعار، ولا بانتقاد السلطة على حمايتها لأصحاب الثروة من ناحية، وزيادة الضرائب من ناحية أخرى وحسب، ولكنها لا توفر الرجال في موقفهم الخانع، وهي تعمد إلى إهانتهم بأن تضع إمكانية التحدي في أيدي النساء، حتى وإن جاء ذلك عن طريق السرقة، التي تعني هنا: مصادرة ما تحتكره الثروة لصالح مجموعة من الفقراء.
لقد نجح العرض في تقديم عناصره السابقة، واستطاع أن يحافظ على انتباه الجمهور؛ حوارا وأداء ممثلين، وقيادة مخرج يملك القدرة على التوجيه والإدارة، وحسا كوميديا لم ينقطع كثيرا، فهل حقق ذلك في عناصر العرض المسرحي الأخرى؟
يمكن الإشارة أولا إلى أن الموسيقى شكلت عاملا مهما في تشكيل النغمة المتحولة للحوار، وفي ضبط حركة الممثلين، ما ساهم في المحافظة على إيقاع العمل. كما يمكن القول إن جميع الممثلين قاموا بأدوارهم بالشكل الذي رسم لها: خالد الطريفي مثلا هو صاحب قدم ثابتة على الخشبة، وهو من خلال تجربته الثرية كمخرج وكممثل، قادر على أن يكون سندا مهما لزملائه؛ وهلا بدير تتمتع بطاقة أداء تلفت النظر من اللحظة الأولى، وعدي حجازي يحقق نجاحا يستحق التنويه، في تقمص الأدوار، وحضور سميرة الأسير وأحمد سرور فيه تميز يليق بما يمثله زملاؤهما في العرض. 
رؤية الديكور للوهلة الأولى توحي بأننا سنكون أمام عرض "موت فوضوي"، خصوصا الديكور الداخلي المنضبط، الذي وظفت أجزاؤه بشكل جيد، من الطاولة إلى السرير إلى المطبخ حتى الشباك والحمام وما لا يظهر من ظروف الجيرة، لكن وضع الباب الرئيسي غير مقنع، وقد يكون مربكا لدخول الممثلين. أما المقعد إلى جانبه، فلم تكن له وظيفة محددة أو مفهومة، وربما يستحسن أن يتحول إلى مجرد كواليس بألا تسلط عليه إضاءة، وألا يصدر منه حوار مسرحي أو تدخل في العرض من أي نوع.
وموضوع التدخل كان أضعف ما في العرض: إن إدخال الأسلوب الملحمي (البريختي) في عرض داريو فو لا يبدو مناسبا، فبين الاتجاهين المسرحيين، من ناحية العرض، اختلافات أساسية، حتى وإن كانا ينطلقان فكريا من أرضية واحدة، هي الرغبة في استلهام الجماهير بهدف التعامل مع اهتماماتها، أو بمعنى آخر، الانطلاق من القاعدة الجماهيرية. محاولة إشراك الجمهور، أو التوجه إليه، في بعض جزئيات العرض، كانت خروجا على السياق العام، بينما شكل الارتجال، الذي يقبله مسرح داريو فو إضافة إلى العرض، في عدة حالات، كان انفراط المسبحة (كحادث عرضيّ) وتعليق الممثل من أبرزها.
مجمل القول: إن هذا العرض يعيد إلى المسرح شيئا من الحياة التي يستحقها. والجهود التي بذلت في إعداد المكان، وفي متابعة تفاصيل العمل حتى لحظة الوصول إلى الخشبة، تنمّ عن جدية تستحق الاحترام، في التعامل مع الفن المسرحي، والعمل على أن يتحول إلى حدث يومي يكون له تأثيره المهم في واقع المجتمع ذاته.