Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    02-Aug-2019

الزرقاء وكومة الأسرار الغامضة

 الدستور-ناصر الريماوي/ قاص أردني مقيم بالسعودية

ربما تكون لهذه الذاكرة الشعبية، النبيلة، الغارقة في القدم بعض الخصوصية، لتأتي بهذه الأسرار، وما خلفته بيننا من حيرة في البدء، وهي تعيد لنا ترتيب عيشنا اليومي، القليل، ببهجة المتاح، على نسق المتاهة.
ربما هي الأزقة العتيقة المتشعبة، في انبعاثها من هالة العدم الوفير، ما يجلب أسراراً أكثر غرابةلهذه المدينة،ويدفع بالمزيد.
ربما رحابة البيوت الضيقة، بأحواشها المشرعة على السماء، وجدرانها الخارجية المتراصّة،دون انتباهفعلي منهالوشحات الصدأ الزاحفةعلى امتدادها مع الوقت،ليكون جلّ اهتمامها، كيف تمضي بنا كل يوموبأمان نحو شوارع فرعية، بائسة، بلا أرصفة - ذلك الحين- وحاراتتقطّر بالفرح.
ربما هو السّيل أيضاً،ما يبعث بوهم الأسئلة في العقول، لتغدو مع الوقت أسراراً، حين يجري بعيداً ولا تطل عليه أغلب الحارات، بأدغاله الموحشة التي نسمع عنهاوهي تتبع جريانه، كحقيقةأبدية، تستقرّ في أذهاننامثل حلم فرديّ، دون أن تتخطاه.
ربما لأسباب أخرى، مجهولة، لها علاقة بذروة الحاووز وميدانه، كانت كومة الأسرار.
***
كان من بينها ما روته الشاعرة والصديقة «غيد» حول أناس غرباء، يفدون إلى ميدان الحاووز، بعد منتصف الليل بقليل، ثم يأتلفون بعفوية بالغة في جماعات، قبل أن ينحدروا للسير في كل الشوارع.
 ملابسهمعصرية، أنيقة، لكنها الآن عتيقة، منتهية الصلاحية.
وكانت تمعن «غيد» بوصفها على أنها «موضات» غابرة، عفا عليها الزمن، تعود إلى أواخر الستينيات على أكثر تقدير، فمن هم ومن أين جاؤوا؟
«غيد».. تلمح أغلبهم من خلال النافذة السفلية وضباب السور الحجري لبيتها، ثم تجزم واثقة بأنهم سر خفي. تواصل حديثها، قائلة: «الزرقاء» كومة أسرار لا تنضب.. وهم كانوا سكانها، بكل تأكيد، رحلوا عنها ذات يوم بعيد، لكن أرواحهم لم تزل عالقة، بين حفر الطريق، وحتى يومنا هذا.
يمرون بأسوار المنازل الهاجعة فتستدير البرندات نحوهم، مرغمة، ربما كردة فعل لا أكثر، بعض النوافذ تدبّ فيها الحياة فجأة، وقد تهمس للأرصفة والشجر المحني أن يقف. 
«غيد».. فقط تستاء من حفيف أقدامهم فوق هواء الرصيف المحاذي لبيتها، كلما استدار الشارع الساكن بفرعيه، أيقظها.
تصيحأمامي فجأة: هذا الميدان يعرف سكانه، ألم أقل لك؟
وأما السرّ الأغرب، فكانت هالات»الظلال الباقية»، وما ألفناه على جدران الأزقة، لأناس لا نعرفهم، رحلوا قبل دهر طويل من مجيئنا، وما ورثناه من تقاليد حولها بين جدران البيوت العتيقة وفسحاتها.
قديماَ وفي مدينة «الزرقاء».. كان حريّ بكل واحد منّا قبل أن يرحل عنها، أن يسعى في لحظات وداعه الأخيرة إلى إتمام طقوس رحيله الموروثة، حتى يكتمل الوداع،وليغدوغيابه أقلّ وطأةً على الآخرين.
فكان لزاما على كل راحل أن يعمد إلى أقرب جدار خارجي يصادفه ليعلّقَ عليه ظلّه، ثم يمضي.
كل «الظلال الباقية» وحتى المنسيّة منها، ظلّتْ على احتفاظها الأزلي بفحوى الملامح الراحلة لأصحابها، وهي تشير إلى آخر هيئة مألوفة لديهم، حفظناها لهم عن ظهر قلب، قبل أن تستقيم لهم قسوةالغياب.
كان يباغتنا ازدحام «الظلال الباقية» ونحن صغاراً، بتلك الألفة الحنونة، حين نراها تترجل، لتسير في الأزقة، أو تجلس إلى مصاطب الدكاكين المتناثرة في الحيّ بعد المغيب.
كنّا لا نعرف أغلبهم، لكننا كنّا نتبع ظلّهم بفرح طفولي لا يوصف، حتى يعودوا إلى جدران الأزقة والبيوت من جديد.
صديقي، الكاتب «محمد صبيح» والذي رحل مثلي بغتة، ذات يوم بعيد، دون أن يعلّق ظلّه، روى لي ما جرى معه بكل غرابة، قال: عدت إلى حارتنا العتيقة شرقي الحاووز، مضطرا، وأخذت أبحث عن شيء فاتني هناك كي أكتب عنه، بحثت بين نواصي الأزقة وجدرانها الخارجية، لكن الأشياء هناك، بدت لي غير منظّمة، بل ومشوشة أيضاً، وأما ذاكرة البيوت المقفرة وقد علت جدرانها الممتدة هالات الصدأ الكوني، فكانت موحشة وتستعصي على الفهم، ليستحيل معها أي ترتيب زمني ممكن.
بالأحرى.. كان الوقت رماديا وقاسيا، إلى أبعد حد، وكانت أيقونة الظلال معتمة.
ختم قائلا: سرعان ما انبرى ظل شفيف عند الناصية، لكهل راحل، لم أعرف من هو، أشار عليّ بالرحيل، وعلى الفور، حقنا للوقت، قال حاسماً بأن هذه الحارات القديمة كتومة، وسرّها عميق، ولا تحتفظ إلا بذكرى قاطنيها، وأما من مضى ليغيب فجأة، أو يفرّ بظله بغتة، فلا ذاكرة له بين جدرانها كي تسعف حيرته.
لكن السرّ الأكثر غرابة على الإطلاق، بين كومة الأسرار، فكانت «وحشة الليل»، وما خلفته بيننا من حيرة، وخوف ذات زمن عابر. لم تكن الظلال التي أخذت تتدافع في الأزقة العتيقة لتعتلي جدران البيوت، وتطل من فسحاتهاالمشرعة شبيهة بتلك «الظلال الباقية»، كانت  سوداء داكنة، بلا ملامح، تثير بيننا الفزع.
مرّت ليال كثيرة، وهذه «الوحشة» الغامضة تعبث بنا، وبهدأة الليل، دون سبب واضح، وقبل أن يعثر أحد الجيران صدفة، على بعض المرايا الساكنة في بعض الزوايا المعتمة لتلك البيوت المقفرة.
في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، كان لوقع الرحيل عن تلك الحارات العتيقةدورا لا يغتفر في اندلاع هذه الظاهرة، أضف إلى ذلك بعض التخلّيالصريح عن طقوسها الموروثة فيالغياب، مما يعد هجراً قاسياً للبيوت، دون أيّ اعتبار لذكراها، بل كان وقع ما يجري يعدّ في العرف انتهاكاً فظيعاً لها ولكل شيء حولها، وهو يَعِد جدرانها بغيبات طويلة لا حدود لها.
تلك الليلة.. راح صوت الجار يتردد عاليا ورخيماً بين بيوت الأزقة الهاجعة، وهو يهيب بالناس،قائلا: وحشة الليل مصدرها المرايا..!
ولا زلت أذكر جيدا، مثلما يذكر غيري، بعضاً مما قاله وهو يمرّ بالنوافذ والبيوت، قال: تحديدا، تلك المرايا المعلقة في الزوايا المعتمة من دهاليز البيوت الخالية، أو المهجورة حصرا. 
مع الليل ووسط الصمت العميق، عادة ما تستفيق المرايا.
على انعكاس الوجوه التي رحلت قبل الأوان، وظل وجودها رهنا بالحنين لتلك الملامح، سيقف الوقت، أو تفرّ السكينة، ليغدو الليل غريبا ومفزعاً هنا.
ثم وهو يواصل تحذيره: قبل أن تهجر بيتا، أسدل على كل مرآة ستارة، فلا تبث الليل عتمة حزنها في الغياب، فتأنس الدروب، أو تنام وحيدة، دون عناء.
***
أيام قليلة واستعدنا بهجة السهر في ظلّ هدأة الليل، لمْ ينغص علينا شيء بعد ذلك، وسط الحارات الهادئة،غير أن هالات الصدأ القاسية كانت قد تفشّت أكثر مما يجب على جدرانها، وأكثر مما نحتمل، لتطال النوافذ الموصدة والمشرعة في آن معا، وليكون الحنين هو سرّنا الأخير، وسرّ المدينة الأكبر.