Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    01-Feb-2019

رسائل أليخاندرا بثارنيك .. مدونة للحزن الأبدي
ميدل ايست اون لاين -
الغرضُ من مُقاربةُ الرسائلِ المُتبادلة بين المُراسلَينِ يختلفُ وفقاً للمنهجِ الذي يسلكهُ الدارسُ. قد يكونُ الهدفُ من نبش تلك الأوراق المُحبّرة هو البت في جدل تاريخي حول شخصية مُثيرة وإشكالية، كما يستفيدُ الباحثون من الرسائل لدعم فرضياتهم بشأنِ ما يسودُ في مرحلة تاريخية من صراعات اجتماعية وفكرية وسياسية. 
لكن الغاية الأساسية بالنسبة لمُتابعي الرسائل التي سطرها الأدباءُ هو إضاءة طبائع شخصيات هؤلاء وفهم هواجسهم على الصعيد الإبداعي والنفسي والمعيشي في آن واحد. وما يحولُ الرسائلَ إلى منصة الإعتراف والبوح بما هو كامن في سرائر النفس هو محدودية المجال التداولي الذي لا يتجاوزُ طرفين مُعينين قبل تسرب محتويات المادة الرسائلية إلى العلن.
ومن الواضح أنَّ العفوية والصراحة وتفادي التصنع في التعبير من خصائص أدب المُراسلات هذا فضلاً عن تنوع أشكالها من الرسائل الغرامية إلى السجالية والتراسل بين الأصدقاء وغالباً يتناوب الأسلوب الإنشائي والخبري صيغة الرسالة.
براءة وحشية
واللافت في الرسائل المُتبادلة بين الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك ومُعالجها النفسي ليون أستروف - الصادرة مؤخراً من دار المدى بترجمة الشاعرة والمترجمة  المغربية رجاء الطالبي - أنَّ مضمونها يظهرُ تفاصيل يوميات الشاعرة في باريس وتردُ تلميحات في سياق الكلام المرسل أنَّ أليخاندرا سافرت إلى مدينة النور بناءً على نصيحة مُعالجها النفسي، ولعلَّ المشتركَ البارز بين فن اليوميات وأدب المراسلات هو الإلتزام بتسجيل التاريخ، وما أن تُثبت التاريخ حتى يمكنك كتابة ما تشاءُ ضمن يومياتك، لذا يعتقدُ الكاتبُ والروائي التونسي كمال الرياحي بوجود تقارب في صياغة مادتي اليوميات والمراسلات.
 
الحزن الأبدي هو عنوان مناسب لحياة هذه الشاعرة التي إنتحرت في السادسة والثلاثين من عمرها
 
أكثر من ذلك فإنَّ ما يلاحظُ  في هذا الأثر الأدبي هو الفرق بين بنية ما أرسلته أليخاندرا بيثنارنيك وردود أوستروف، إذ تطالعُ فيما كتبه الأخيرُ نمطاً إرشادياً في الأسلوب يشجعُ الطرف الآخر على ضرورة التحلي بالواقعية والإحتفاء بالإنجازات الأدبية. 
يُخاطبُ أليخاندرا قائلاً: "إذا أصبحت مخاوفك ومُعاناتُك فيما بعد كلماتٍ جميلة، فعليك أن تفرحي لأنَّ الكلمات الجميلة لا تولدُ الإ حين يدفعها شيء في داخلنا، جميل أو رهيب"، بينما تفصح صاحبةُ "شجرة ديانا" عن نظرتها العبثية وكلماتها تعبرُ عن سوء صحتها النفسية، وما يُضاعِفُ مُعاناة أليخاندرا هو الصراع المرير بين كونها شاعرة وإكراهات الوقع المعيشي إذ تُعلنُ في رسالة ٍعن رغبة الإنشداد إلى عالمها الخاص "أنا الآن في كوكب آخر لا شيءَ فيه يشدُ إنتباهي". 
ولا تُمانع مؤلفة "البراءة الأخيرة" من استعادة تعابيرها الشعرية في تلافيف رسائلها مع التحوير لبعض المُفردات وهي تبلغ معالجها "يجبُ أن أنقذ نفسي من هذه الريح". هذا الكلام مُستعارُ من قولها الشعري "يجبُ أن نُنقذ الريح" تلمسُ في العبارة الأولى ميل الشاعرة في التحول نحو الذات أو وجودها الحقيقي على حد تعبير هاديغر وقد تكمنُ فرادة المُبدعين في عدم تجاهل رغبة الإنتقال من الوجود المزيف إلى الوجود الحقيقي، وهذا ما تمسك به بودلير ورامبو ولوتريامون. 
واختار فان كوخ هذا الصنف من البشر، الوقوف ضد العقلية الإمتثالية وما يُعمق من الشعور بالتغرب لدى الشاعر هو رفض الأخير ليكون وعيه مجرد انعكاس للأشياء. 
أمر تراه بالوضوح في شخصية أليخاندرا بيثارنيك التي أبانت عن سخطها ضد مشروطيات الواقع القسرية حيثُ تتساءل مُخاطبة ليون أستروف "كيفَ للواحد أن يقلق بسبب المال؟ لا أريد أن أرهن وقتي في عملٍ طويل. أريد وقتي لي، لأُضيعه لأصنع به ما أصنعه في العادة. لا شيء "تتقاطعُ دلالةُ هذا المنطوقِ مع ما طالب به الشعراءُ السرياليون من ضرورة التحرر من سطوة الرأسمالية وفضلوا التسكع والتشرد على الحياة المُنمطة".
المُستحيل 
أدركتْ أليخاندرا إستحالة العودة إلى الحياة البدائية معللة ذلك بتصاعد حدة كراهية الطبيعة للإنسان كما تعترفُ في إحدى رسائلها بأنها ستصبحُ صعلوكةً مُتشردة إذا لم تكملْ الدراسة. غير أن أزمتها تبدأُ نتيجة الفشل في إيجاد التوازن بين الرغبات الذاتية والواجبات الحياتية. وفي هذا الإطار تعبرُ الشاعرة عن شغفها للكتابة لأيام وشهور ولكن يرهقها السؤالُ ماذا أريد أن أكتب وعن ماذا؟ فهي مسكونةُ بالصمت على حد تعبيرها.
ويبلغُ التشاؤمُ لدى الشاعرة الإرجنتينية إلى حد تعتبرُ في مستهل رسالتها الثانية إلى أستروف أن الصعب هو قبول الحياة. كما يشتدُ توترها أكثر لدرجة لا تراجعُ رسالتها المكتوبة خوفاً من تمزيقها والتنكر لما سطرته. تقولُ في خاتمة الرسالة التاسعة "لا أعيد قراءة الرسالة لأننى أشعرُ بالخوف من رؤية أن الأمر ليس هكذا، وأنَّ هذا ليس ما أردتُ قوله". 
كما أشرنا سلفاً فإنَّ أليخاندرا تُضَمَنُ رسائلها الشكوى من العمل والإلتزام بالمواقيت. فهي تشكُ في القدرة على التصالح مع منبه الساعة. وساعات العمل الطِوال في غرفة مُظلمة. زيادة على ذلك فإنَّ أليخاندرا تنتقلُ بين الأمكنة وليس لديها مسكن ثابت في باريس. إذ تمضي أيامها بطريقة بوهيمية إذ تصفُ الشقة التي تقيم فيها بالسريالية لشدة فوضويتها. عليه فإنَّ الشاعرة توافق على أن تعملَ غير أنها يؤرقها العمل في جريدة رجعية سياسياً. إلى جانب ذلك تقومُ بإجراء الحوار مع سميون دي بفوار، والكاتبة والروائية الفرنسية مارغريت دوراس. كما راق لها الإعداد لسيناريو فيلم عن الرسام الأرجنتيني بايخو. وتخبرُ ليون عن ترجمة نصوصها الشعرية إلى عدة اللغات منها العربية.  
قيمة يومياتها الأدبية
القلق الوجودي المُتغلغل في مسامات حياة أليخاندرا
 
الثيمة الثابتة في هذه الرسائل هي القلق الوجودي المُتغلغل في مسامات حياة أليخاندرا تتواردُ الصيغ التعجبية في حيثيات كلامها عن المرض والعصاب والعنفوان الجسدي واللذة الجنسية، تستغربُ من عملها المتواصل كأنَّ الحياة ليست محدودة. وتعرفُ أن الموت حقيقة ومع ذلك تتبرع بسبع ساعات من يومها وهذا ما يدهشها.
ونحنُ بصدد الحديث عن مضامين رسائل أليخاندرا بيثارنيك يجبُ أن نصغي إلى ما يقوله ليون أوستروف عن الشاعرة التي تعرف عليها وقد بلغت الثامنة عشرة من عمرها للتو. إذ يعلنُ صراحة "كنت في بعض الأحيان أؤجل مهمتي المهنية إن لم أنسها لأُدخل عالم أليخاندرا السحري ليس من أجل طرد أشباحها بل لأقاسمها إياهم". ويشخص حالتها المرضية بأنها أرادت الإقتراب من الفوضى من أجل الإطلاع على قانونها السري. 
ما يذكر هنا هو المكون الثقافي في شخصية إليخاندرا، كانت قارئة نهمة تحيل إلى العناوين التي تُتابعها. الليالي البيضاء، رسائل كافكا  وميلينا، جورج باطاي، غونغورا، ومعظم السورياليين. كما تغذت بقراءة الشعر. إستنفدت أليخاندرا طاقاتها بالكتابة والكحول والتدخين والعلاقات الحسية التي تلمحُ إليها ضمن رسائلها. 
وفي الأخير تتساءلُ عندما تصلُ الخامسة والعشرين هل هو سن البلوغ الذي وصل نهائيا؟ كما تملكها الحنين إلى أمها وتتردد في العودة إلى بوينس آيرس. بل الحنين هو ما يمكن اليخاندرا على معرفة كينونتها.
تشيرُ الشاعرة في الرسالة الخامسة عشرة إلى قيمة يومياتها الأدبية بحيثُ تفوق على قصائدها أهميةً حسب رأيها. وما يؤكدُ حقيقة هذا الأمر هو اعتماد ابنة أوستروف على نصوص اليوميات لدراسة شخصية أليخاندرا كما حاول إدموندو غاميث مانغو تحليل المستوى النفسي للشاعرة على ضوء ما تضمه يومياتها.
ماقاله بودلير عن وجود عاطفتين مُتناقضتين في قلبه الرعب من الحياة ونشوة الحياة ينطبقُ على أليخاندرا بيثارنيك أيضاً. إذا فإنَّ الحزن الأبدي هو عنوان مناسب لحياة هذه الشاعرة التي إنتحرت في السادسة والثلاثين من عمرها.