الراي - كتابة وتصوير - مفلح العدوان - نتابع سيرة التعليم في الأردن، والبوح تتفتح دروبه على مساحات تثير الدهشة، وتذكر بحكايات لا يعرفها الكثيرون من أبناء الوطن، ولعل هذه الإطلالة يمكن من خلالها التأسيس لمخطوط مفصل حول سيرة التعليم من خلال شهادات أبناء القرى حول الكلمة والحرف والمدارس والكتاتيب في دروب قراهم، وفي هذه الحلقة سيكون السرد منصب على بوح التكوين للتعليم في ثلاث قرى هي كل من راكين، وسما السرحان، وسوف، وهاكم اقرأوا حديث أهل تلك القرى.
راكين.. «المدرسة بأرض عيال عايش»
راكين
راكين
يفتح المختار عبد الحافظ الجعافرة (أبو ماجد) بوابة الحديث عن التعليم في قرية راكين (تقع في الشمال الغربي للكرك على تلة مطلة على البحر الميت، وتبعد عن مركز محافظة الكرك 15 كم) بقوله: إن أول مدرسة بنيت في القرية عام 1952م، ويضيف موضحا؛ « وكان هذا بقرض من مؤسسة كير، وقد سدد هذا القرض المواطنون في راكين، أما بقية القرض فقد سدده المجلس القروي عندما تم استحداثه في القرية، وكانت الأرض قد تم شراؤها من عيال عايش(من رحمة سليمان بن عايش العساسفه واخوانه)، كما أنه كان بعد ذلك يغطي المجلس القروي هذا القرض من ثمن المحروقات التي كان يأخذها لشؤون المجلس وكانت قيمتها 400 دينار يتم خصمها لتغطية القرض في تلك الفترة».
وقبل ذلك، كما عرفه من ذاكرة من سبقوه، بأن «التعليم كان عن طريق شيوخ، وفي بيوت الشعر، وكان أول شيخ جامع يدرس الأطفال في بيوت الشعر اسمه عودة الحوراني»، ومن الذين قرأوا عند هذا الشيخ كل من كامل العويسات، ومطيع بن خليف، وفهيم بن سليمان.
كما يتذكر أهل القرية من حفظة القرآن وأئمة المسجد فيها هزيم عبد المعطي الجعافرة، وأحمد فالح الحباشنة، كما أنه في فترة ماضية من تاريخ القرية كان الرجل الوحيد الذي يقرأ في القرية هو سليم بن عقلة، كما أنه قِسم من أبنائها في فترات ماضية كانوا يقرأون ويتابعون دراستهم في الكرك، ومدرستها هناك.
سما السرحان.. «صَدَق أبو مصطفى»
سما السرحان
أهل قرية سما السرحان (تقع إلى الشمال الشرقي من المفرق، وتبعد عنها 17 كم، وهي مركز قضاء سما السرحان من لواء البادية الشمالية الغربية من محافظة المفرق، وتتبع إلى بلدية سما السرحان)يتذكرون بأن الخدمات الحقيقية وصلت إلى قريتهم بعد زيارة شهيرة للمرحوم وصفي التل، أيام كان رئيسا للوزراء، ويعرج على تفاصيل هذه القصةالحاج ضيف الله غاصب السرحان(أبو زعل)، وقد كان أول رئيس لبلدية سما السرحان، بعد أن يتحدث عن المدرسة والعيادة في القرية، كمفتاح للتطور الذي حدث، وفي هذا السياق يقول: «كانت أول مدرسة في دار سلامه، ، وقمنا سَكّناه ببيت شعر، وحطينا المدرسة في هذيك الدار، وما كان فيها إلا صف أول..وبالنسبة للصحة، كان يجينا من المفرق دكتور اسمه سليمان بقاعين، وكان يمر عندنا بالأسبوع مرة، وكان يعالج الناس من أهل البلد عندي بالدار، وبعد فترة قال لي والله تعب عليك انه نعالج الناس عندك بالدار، إيش رأيك تأجرنا غرفتين عندك بالحوش، وبالفعل استأجروا مني، وبعدين عمّرنا على الغرفتين وصار مركز صحي.لكن الخدمات الصحية إجتنا مع زيارة دولة المرحوم (أبو مصطفى) القرية، وهذي إلها قصة يوم انه أجا وصفي التل واتغدى بمغير السرحان، بعدين أجا عندي المزرعة، وقال ودي تقول لي أي اشي تحتاجه سما، فكان ردي عليه انه أجونا حكومات قبلك وما عملوا إلنا اشي. لكنه قال لي احكي، وبعدين نشوف. فقلت له، أول حاجة الطريق يا أبو مصطفى.قال :أنا شفته، ورح نزفته.قلت:عندنا عيادة، ووضعها خربان، ومعششة فيها الحيايا والعقارب.قال:بكره الساعة ثمانية الصبح يجيك امبلنص(سيارة إسعاف) وفيه أربع أسره، تشوف له مكان عندك.قلت له: والجامع، عَمّرنا منه غرفتين وما كَمّلناه.قال: الجامع، بعد أسبوع تراجع الأوقاف عشانه.قلت:والمدرسة موجودة بالجهة الشرقية وصرنا بانيين شمعاتها، ومش قادرين نكملها.قال:تراجع التربية بعد أسبوع وان شاء الله تكون محلولة مشكلة المدرسة.وخلّص أبو مصطفى زيارته، ورحل.ونمنا ليلتها، واحنا ناسيين الوعود، يعني كنا مفكرين انه وعده مثل غيره، وانه رح يتأخر علينا.لكن ثاني يوم، ومن الصبح، وإنوا صوت الإمبلنص يدوّي بالقرية..كمان اتفاجأنا انه بعد سبع أيام وانه الآليات تشتغل بالشارع للقرية، وزفتوه خلال هذه الفترة. وقمت أنا راجعت بعد أسبوع التربية وانهم مجهزين أربع آلاف دينار للمدرسة، وراجعت،كمان، الأوقاف وكان إلنا بيها ألفين دينار عشان الجامع، وبعيدها قلنا: (صدق أبو مصطفى).. وصارت سما، وكبرت من يومها».
سوف.. البدوي الملثم وعبد الحليم عباس
سوف
قرية سوف التي تقع في الجهة الغربية من جرش، على مسافة 8 كيلومترات من مركز محافظة جرش، يحفل ملف التاريخ الشفوي للتعليم فيها بالكثير، وتحتاج الى وقفة متأملة للتفاصيل فيها، حيث أن مدرسة الذكور في القرية تأسست عام 1924م، بينما مدرسة الإناث في عام 1953م، وكل هذا كان له مقدمات، وتسلسل يشكل بمجمله حكاية حول التعليم في هذه القرية، وكان لهذا التطور أثر على وعي أبناء هذه القرية.
وبالعودة إلى البدايات الأولى، الى عهد الكتاتيب والمشايخ، تشير ذاكرة الناس في هذا الإطار إلى أنه في بداية القرن الماضي، تم الاتفاق بين أهل سوف على أن يتم استدعاء أحد العلماء ليقوم بالتدريس وتعليم الناس، وقد وافق على الحضور لهذه المهمة الشيخ شكري طبيله من نابلس، الذي بدأ بتعليم أهل البلد، وأقام الصلاة فيهم، وحدثهم في أمور الدين، ثم أحضر زوجته وأخاه الشيخ المؤذن عاهد، ثم بعد ذلك طرح الشيخ شكري مشروع إقامة مسجد في القرية، فتجاوب معه أهل سوف، وتبرعوا بالأرض وبالمال لبناء المسجد وبجانبه بيت للشيخ، وقد أحضر الشيخ شكري المعلمين للبناء من عائلة كلبونة، حيث تم بناء المسجد في عام 1913م، وتم استخدامه للعبادة، والتعليم، وقد درّس الشيخ شكري في القرية 18 عاما، وتوفي في رمضان 1930م، ودفن في المقبرة الشرقية لسوف.
كما يتذكر أهل القرية الشيخ مصطفى مولوي وهو من دمشق، وقد اهتم بتعليم الكبار المدائح النبوية المصاحبة لضرب الطبول والمزاهر، وفيه أثر صوفي، وقد «كانت الجلسات تعقد أحيانا في ليالي الشتاء، وتوقد فيها النيران الكبيرة ذات الجمر، مع البخور المتواصل، ويقدم العشاء فيها وقت متأخر».
ودرّس في سوف كذلك كل من الأديب الأستاذ عبد الحليم عباس، الذي سكن في في منزل عبد الله الديري، وكذلك الأستاذ يعقوب العودات الذي كان يلقب بـ «البدوي الملثم» وقد سكن في سوف في منزل أحمد الصمادي قرب مياه عين المغاسل، وأيضا الأستاذ جميل شاكر الخانجي، الذي درّس في سوف، وأقام فيها مدة من الزمن، والأستاذ محمد الفرحان، والأستاذ محمد إسماعيل «أبو نبيل»، وهو مصري الجنسية، والأستاذ فضل الدلقموني الذي كان مديرا للمدرسة، وقد نقلت المدرسة في عهده من وسط سوف إلى عمارة حديثة صاحبها أحمد محمد أبو الكشك (أبو درّه)، وكانت عبارة عن سبع غرف حولها أرض مساحتها سبعة دونمات، تنازل عنها صاحبها أحمد أبو الكشك بكل كرم أخلاق، وقد أشاد بمبادرته وكرمه الأمير عبد الله في تلك الفترة.
وقد أنشأ فضل الدلقموني في هذه المدرسة فرقة كشافة سماها فرقة اليرموك، وكان لهذه الفرقة أنشطة مسرحية، ومن الأسماء الأخرى للمعلمين في سوف عيسى عريضة، وأحمد القر، وأحمد الدبعي، وصادق زكريا، وصايل الحسبان.
وهناك تجربة في تعليم البنات في سوف، ففي البداية كانت بعض النساء يتعلمن على يد امرأة أحد الشيوخ، وعدد النساء اللواتي استفدن من هذه التجربة لا يتعدى 10 نساء، ولكن في عام 1930م جاءت المعلمة منتهى جرار التي كانت تدرس مناهج وزارة المعارف في منزل ارشيد عبد الله الديري.
عند الحديث عن التعليم في سوف، نتوقف عند ما يرويه الكبار في أنه كان من المقرر أن تكون أول مدرسة ثانوية في الأردن، في بلدة سوف، حيث تشير الأحاديث الى أنه وبعد تأسيس إمارة شرق الأردن بعدة سنوات حضر المندوب كركبرايت لزيارة سوف لوضع حجر الأساس لبناء أول مدرسة ثانوية في إمارة شرق الأردن بعد أن كان قد اتفق مع علي باشا الكايد على ذلك، وتم إحضار الحجارة للمباشرة بالبناء في قرية سوف التي كانت تمثل ثالث تجمع سكاني في إمارة شرق الأردن، حسب ما ورد في كتاب تاريخ الأردن لسليمان موسى ومنيب ماضي، الطبعة الأولى، إلا أن نفرا من أبناء قرية سوف آنذاك قد تظاهروا ضد إنشاء وبناء المدرسة لأنها سوف تمنع أبناءهم من مساعداتهم في العمل والفلاحة، واخذوا بالهتاف ضد إنشاء المدرسة. وقد سأل المندوب السامي عندها علي باشا الكايد ماذا يقول هؤلاء الرجال فأجابه إنهم يرحبون بفخامة المندوب السامي، إلا أن المندوب السامي لم يقتنع بذلك كون علامات الغضب كانت ظاهرة على وجوههم، كما أن نبرات أصواتهم تشير الى استيائهم، وغضبهم، فقام بسؤال مترجمه الخاص الذي أجابه بأنهم لا يريدون المدرسة. عندما أدرك المندوب السامي هذه الحقيقة قال: «يستطيع علي باشا الكايد أن يدرس أبناءه في أي مكان يريد». وتم إلغاء الفكرة ونقلت إلى مدينة السلط لتكون أول مدرسة ثانوية في إمارة شرق الأردن التي خرجت رجالات الأردن الأوائل.