Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    14-Oct-2020

رواية «هروب ابنة نوح»: تحررالمتخيل السردي من سلطة التاريخ

 القدس العربي-مروان ياسين الدليمي

على الرغم من إمكانية إحساس القارئ بخلفية العلاقة بين المتخيل السردي الروائي والسرد الميثولوجي في رواية «هروب ابنة نوح» للروائي والشاعر العراقي صلاح حسن، إلاَّ أن الشخصية تأخذ حيزا مركزيا في بنية العمل، باعتبارها محورا أساسيا، للدخول إلى مرجعية الحدث الواقعي. والمقاربة السردية في هذا النص بمكونات قراءتها المتخيلة للواقع، لم تمنح حضورها المرتبط بالذاكرة التاريخية، مساحة من الهيمنة والانحياز، من حيث المكان والزمان والوقائع، بقدر ما كانت الشخصية وحدة أساسية استند إليها البناء النصي، بكل ما جاءت عليه هذه الوحدة من خصائص في تركيبتها السايكولوجية، ولتكون العنصر المحوري في تشكيل هذا الأثر الفني.
 
حضور الشخصية
 
الشخصيات المحورية فاتن، باسم، نرمين، والموكل إليها مهمة إحالتنا إلى بنية العالم الروائي، قد تبدو على صلة محايثة مع مرجعية واقعية وأسطورية، إلاَّ أنها بعيدة نسبيا عن هذه المرجعيات بمسافة ما، ويتأتى ذلك بفرادة كينونتها العاطفية والأخلاقية في كل ظهور لها في سياق السَّرد، فالشخصية لم تنفتح في بنائها الروائي على شخصيات محددة ذات هوية وسيرة تاريخية يمكن الاستدلال على وجودها الواقعي أو الميثولوجي المرتبط بزمكانية معينة لدى القارئ، كما لا يمكن إغفال إمكانية التقابل معها في المناورة السردية، التي جاء بها العمل، لأن بنية الرواية تدفع القارئ في حبكتها إلى الدخول في عالم واقعي متخيَّل، تشكَّلت مفرداته بفعل الانزياح عن بنى السرود التاريخية والشفاهية، ربما نعزو ذلك إلى الخلفية الشعرية للمؤلف، فقد ساهم نأيه عن ما هو مألوف ومتداول، اعتمادا على خصوصية لغته وقدرتها على لملمة الواقع والأخذ به نحو مساحة من التخييل، إلى أن يتحرر عمله الروائي من سلطة الحدث التاريخي، فتعامل معه بعلاقة قائمة على الإيحاء، وليس على تقنية التمثيل والاستعادة، بالتالي شطَّ به بعيدا حتى عن أنماطه المألوفة في المشهد الواقعي، وهذا لا يعني أنه قطع أواصر هذه العلاقة مع الواقع والتاريخ، بل حافظ عليها بخيوط يمكن إدراكها بصورة غير مباشرة، وهذه هي لعبة الفن في نزعته المتمردة على الواقع والتاريخ والأسطورة، عندما يحاول أن يشتبك مع هذه العناصر، فالفن لا يتخلى عن حريته أمام أي سلطة مهما امتلكت هيمنة قد تصل بها حد التقديس، سواء كانت متوفرة في نص شفاهي أو مكتوب، وصلاح حسن في روايته التي تصدى فيها لتركيبة معقدة من العلاقات، التي يتداخل فيها الرمز بدلاته التاريخية والأسطورية، مع الواقع المعاصر، كان على قدر كبير من الحساسية في التعامل مع هذه المستويات المتعددة والمختلفة، وبدا سعيه واضحا في أن يحافظ على مسافة بين عالمه الروائي وهذه المرجعيات، لأنه لا يريد لنصه أن يكون مثقلا بسلطتها.
 
ما بين المتخيل والميثولوجيا
 
يحيلنا اسم نوح في عنوان الرواية إلى المتن الميثولوجي للوهلة الأولى، غير أن هذه الاستعادة المفترضة التي قد ننساق إليها سرعان ما تتضاءل عندما ندخل إلى المتن السردي، ولن يبقى منها إلا صدى لتلك البيئة المتخيلة في الذاكرة الإنسانية الجمعية، من غير أن يكون لها تسيد في المتن الحكائي للرواية، ولو افترضنا وجود هذه الصلة فإن نوح مدرس اللغة الإنكليزية المتقاعد، والد فاتن الشخصية المحورية، استحال إلى شخصية واقعية لا صلة لها بمرجعيتها الأسطورية، لكنها من الممكن أن تلتقي معها في ما تتحمله من مسؤولية أخلاقية إزاء العالم، لأن وظيفة الشخصية في الرواية مازالت فاعليتها كامنة في ما تشقه من سبل لإنقاذ البشر، على اعتبار أن مسيرة حياتها كانت قد وسمتها مهنة التعليم والتنوير، ولم تتوقف عن الإيفاء بمتطلبات هذا الدور، حتى بعد أن أحيلت إلى التقاعد، فبقيت محافظة على خصوصيتها المهنية والإنسانية في حماية الإنسان مما قد يواجهه من مخاطر، كما فعل نوح في المروية الميثولوجية، ويبدو ذلك في حرص نوح في البنية الروائية المتخيلة على أن يتولى مسؤولية حماية ابنته، حتى بعد أن وصلت إلى المرحلة الجامعية وبدأت في دراسة الأدب الإنكليزي.
 
يحيلنا اسم نوح في عنوان الرواية إلى المتن الميثولوجي للوهلة الأولى، غير أن هذه الاستعادة المفترضة التي قد ننساق إليها سرعان ما تتضاءل عندما ندخل إلى المتن السردي، ولن يبقى منها إلا صدى لتلك البيئة المتخيلة في الذاكرة الإنسانية الجمعية.
 
طوفان العقائد
 
إذا كان نوح في السرديات الميثولوجية قد واجه مع قومه الطوفان، ففي هذه الرواية تواجه ذرية نوح طوفان العقائد والأيديولوجيات، التي اجتاحت منظومة البشر القيمية وأحاطت بهم من الداخل، بضمائرهم وأخلاقهم وغرائزهم، وأحالتهم إلى كائنات ممسوخة في وعيها، كما هي شخصية باسم، الذي تحول من ضابط مخابرات بعثي ينتمي إلى النظام السياسي الذي كان قائما في العراق قبل عام 2003، إلى عنصر فاعل في تنظيم «القاعدة» بعد هذا التاريخ، ثم إلى قيادي في تنظيم «الخلافة الإسلامية» فكانت العقائد المتشددة هي الطوفان بمفهومه المعاصر، وبذلك جاءت المقاربة الروائية مع السردية التاريخية بحدثها المحوري، الذي هو الطوفان، انفتاحا جماليا في بنية النص الروائي على النص الميثولوجي، من حيث إيجاد نقطة التقاء تحقق التقابل بين الزمن الماضي والحاضر، بقصد تفكيك العلاقات السردية القائمة بينهما، من منظار فلسفي وجمالي، ليس الغرض منه توصيفا شكليا، وفي الوقت نفسه إيجاد نص سردي تخيلي يستمد حضوره من الواقع، مقابل نص سردي ميثولوجي يتحرك في منطقة التاريخ، بدون أن يلجأ فيه المؤلف إلى التناص أو الاقتباس، وليحتفظ بذلك على خصوصيته، فالطوفان العقائدي الذي اجتاح البشرية، وما تسبب به من تدمير للعلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان، انزاحت بسببه الهوية الإنسانية إلى منطقة صراع وحشي تتنازع فيها الإرادات البشرية تحت عناوين أيديولوجية، كما تجسد في هذا النص، حيث بدا أشد قسوة من طوفان الأمس، لان العناصر التي ينهض عليها، والتي تتصارع في ما بينها هم البشر أنفسم، أي الإنسان ضد الإنسان نفسه، وليس ضد الطبيعة، بذلك يتحمل الإنسان المسؤولية كاملة عن الطوفان الثاني الذي تسبب في اختفاء ريكاردو الطالب الجامعي حبيب فاتن، وفي اختفاء أي أثر لعائلتها، وفي أن تصبح نرمين صديقتها الإيزيدية مسبية تباع وتشترى في سوق النخاسة، قبل أن تتحرر وتصبح لاجئة في هولندا، وأن تتعرض فاتن إلى الاغتصاب والتشرد والهروب بعيدا عن الوطن، ويتحول باسم من عقيدة إلى أخرى وكأنه يستبدل ملابسه، لأجل أن يحظى وبقوة القهر والاغتصاب على كل ما يشتهي أن يمتلكه، بما في ذلك فاتن المسيحية ابنة منطقته. والمؤلف عمد على تغييب شخصية نوح والد فاتن، لتحل ذريته بدلا عنه في مواجهة الطوفان، وهنا تتأسس خصوصية البناء الروائي في هذا العمل، بالاتكاء على سلطة التخييل الفني، من حيث علاقته مع الذاكرة الميثولوجية والتاريخية، فالقصدية لدى المؤلف لا ترتبط بتلك العلاقة الاستعادية الشكلانية للنص التاريخي والأسطوري، إنما انساقت إلى إجرائية إسقاطية إزاء الواقع المعاصر.
 
ذاكرة جريحة
 
فاتن الطالبة الجامعية المسيحية، لم تستطع أن تنسى ماضيها، الذي تحاول دائما أن تهرب منه، رغم أنها وصلت إلى هولندا، وأصبحت لاجئة وباتت تنعم بالأمان، على العكس من صديقتها الإيزيدية نرمين التي سرعان ما تأقلمت مع البيئة الجديدة وارتبطت بعلاقة حب مع هولندي انتهت بالزواج، إلاَّ أن فاتن دائما كان الماضي يستيقظ فيها، كلما اختلت بنفسها، ليواصل تدمير كيانها الإنساني، وإيقاف سعيها لتحقيق أحلامها في الحب والدراسة الجامعية للأدب الإنكليزي، إنه القدر الذي يلاحقها، في صحوها ومنامها، رغما عنها. والرواية في معالجتها للإشكالات النفسية التي تعاني منها المرأة، عندما تقع فريسة للاغتصاب والعنف، قدمت لنا في بنية خطابها قدرا كبيرا من العمق والجرأة، وتوغلت لغتها بعيدا في عوالم الأنثى الداخلية، للكشف عما هو مدفون فيها من هواجس الخوف والرعب. ومنذ السطور الأولى عمد المؤلف عبر الراوي العليم، إلى ايصال الأزمة النفسية والإنسانية التي تعصف بشخصية فاتن بعد مرارة التجربة التي عانت منها في العراق، وتركت فيها جروحا داخلية وخارجية، وشقاء نفسيا ترزح تحت ظلاله، لكنها ما أن تختلي بجسدها في الحمام تجد نفسها تتحسس جرحها، الذي لم يندمل بعد، وكأنَّ منظر الجسد يفجر فيها ما كانت تحاول أن تطمره بعيدا عن ذاكرتها التي مازالت تمد خيوط الارتباط مع الماضي، حتى أنها لم تكن تملك ما يكفي من الشجاعة للحديث أمام الآخرين عن سبب وجودها في هولندا، إذا ما طرح عليها هذا السؤال، فالمشكلة لديها لم تعد في اللغة الهولندية، لأنها اصبحت تتقنها خلال السنة الأولى من دراستها، لكن المشكلة في عجزها عن المصالحة مع نفسها، لأنها مازالت عالقة هناك، في تلك الهوة المخيفة التي مازالت تقبع فيها، عندما كانت مختطفة من قبل باسم، وكأنه ما يزال يغتصبها ويمارس بحقها كل أنواع القهر والإذلال الجسدي، إرضاء لرغبة قديمة محبوسة في داخله بأن يمتلكها، منذ أن كانت شابة تضج أنوثة في السابعة عشرة من عمرها، وما أن حانت الفرصة بعد سقوط الموصل تحت سلطة تنظيم الخلافة، واصبح قائدا في التنظيم حتى عمد إلى اختطافها. ورغم ما كان يحيطها من بيئة آمنة في بلد اللجوء، إلاَّ أنها تجد نفسها تسقط مرة أخرى في تلك الدوامة من مشاعر الخوف، عندما تكتشف عبر رسائل ورقية وصلتها من باسم عن طريق البريد، مع قرص مضغوط حمَّله صورتين، الصورة الأولى أيام كان قائدا في التنظيم، بلحية كثيفة وصلعة واضحة، وجرح قديم على الخد الايسر، والصورة الثانية بعد أن استقر في هولندا ويظهر فيها بشعر قصير وكثيف، وبدون لحية ولا أثر للجرح على الخد الأيسر، ويتصاعد حساسها بالقهر إلى وتيرة عالية عندما يكشف لها أنه كان وراء عملية التخطيط لوصولها إلى هولندا، حتى يحتفظ بها وتبقى في دائرة ما يحرص على امتلاكه، فتتولد في داخلها رغبة عارمة بالانتقام منه، بعد أن يخبرها بأنه يسكن على بعد خطوات منها، فتعزم على بناء خطة محكمة لاستدراجه إلى شقتها، وتنجح في قتله، ولتفرغ ما بداخلها من إحساس بالقهر والظلم بعد أن كان مسؤولا عما أصاب حياتها من تدمير.
 
«هروب ابنة نوح»: المؤلف صلاح حسن / الناشر : دار الدراويش للنشر والترجمة ـ بلوفديف ـ بلغاريا .. الطبعة الأولى: حزيران/ يونيو 2020 / عدد الصفحات 88