Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    19-Sep-2017

هذه المرة عن مطربة.. لم لا؟! - د. زيد حمزة
 
الراي - منذ الطفولة أحببت الغناء والموسيقى كمعظم الناس وربما اكثر قليلا لأني طربت مبكراً على صوت جدي (التركي) وهو يرتل القرآن بنغم جميل كان سائداً في بلاد الشام ومصر قبل أن تتسلّل مؤخراً عبر الراديو والتلفزيون طريقة التلاوة الجافة الكئيبة الخالية من أي احساس! أو لأني تعرفت على آلة موسيقية موحية هي عود والدتي محفوظاً فوق الخزانة بعيداً عن عبثنا، أو لأني سمعت خالي يغني في ارجاء البيت مطوّلات عبد الوهاب الرائعة كالجندول والكرنك بصوت رخيم وأداء أنيق ثم أتاح لي فيما بعد الاستماع معه الى موسيقى كلاسيكية لبيتهوفن وموزارت وغيرهما، وتلك متعة راقية استمرت تشنف أذني الى اليوم حتى أثناء عملي ورياضتي!
 
لقد صاحبني عشق هذا الفن فتعلقت كابناء جيلي بصوت أم كلثوم وهي تصدح من اذاعة القاهرة في الخميس الاول من كل شهر لكن ضيق ذات اليد حال بيني وبين حضورها شخصياً إلى أن كانت السهرة التي أقامها عبد الناصر في نادي الضباط بالزمالك عام 1955 تكريماً لضيفه الملك حسين ودعاني إليها أخي زياد الطيار الخاص لجلالته وغنت فيها ام كلثوم قصيدة (الذكريات)، وفي أسفاري اللاحقة الى أي بلد اجنبي كنت أحرص على ان يتضمن برنامجي أمسية موسيقية أو غنائية أو استعراضية راقصة ولا أخجل الآن من القول دون حرج باني طالما انتشيت في ساعات صفوي بالاغاني الحلوة وتمايلت على انغامها فلم اكن اخشى النواهي المجتمعية القامعة للبهجة ولا حسبت حسابا للوصمة المزعومة بان الرقص طرباً عيبٌ لا يتفق مع آداب المهنة الطبية ناهيك عن الادعاء بأنه يخدش الحياء ويسيء للسمعة العائلية! وسأكون جباناً لو أنكرت الآن أنني احببت في شبابي هذه المطربة او تلك لصوتها البديع وتعبيرها الجذاب، وقد تَصادفَ ذات مرة قبل ثلاثين عاما أن كنت في زيارة رسمية لدمشق حين دعاني وزوجتي صديقٌ لقضاء سهرة تغني فيها مطربة سورية جديدة لم أسمع بها من قبل هي ربى الجمال فاستمالني اولاً اسمها الموسيقي ولما سئلت بعد ذلك عن رأيي فيها اجبت بلا تردد بانها أعجبتني أيما أعجاب، ورحت بعد ذلك أتسقط ظهورها القليل على شاشة التلفزيون الى أن حظيت بعد سنوات عديدة بحفلتها في دار الاوبرا بالقاهرة حينما غنت وابدعت حقاً.
 
اتذكر منذ زمان طويل قولاً مأثوراً في اوساط الفن العربي مفاده أن المطرب ينشأ ويتعلم الغناء في حلب وينتقل للعمل وكسب الرزق في دمشق ويشتهر ويزدهر في القاهرة ثم يعود لدمشق ليموت فيها! وهو تعميم قاسٍ لا ينطبق بالطبع على كل المطربين والمطربات الذين خرجوا أو خرجن من حلب لكنه انطبق هذه المرة بحذافيره وبكل اسف على ربى الجمال فهي الارمنية زوفيناز قره بتيان التي ولدت وترعرعت في حلب حيث تدربت على اساتذة المقامات الحلبية فاتقنت منها عددا قياسيا في سن مبكرة ثم انتقلتْ للعمل في دمشق في ثمانينات القرن الماضي وقيل إن مصاعب فنية وحياتية عديدة واجهتها، لكنها عندما دُعيتْ للغناء في دار الاوبرا بالقاهرة تألقت وحلقت عاليا خصوصاً بادائها لرائعة ام كلثوم (رباعيات الخيام)، وقد رحب بها النقاد أيما ترحيب ووصفوا صوتها بأنه مزيج مُعجز لصوتيْ أم كلثوم وأسمهان معاً، وبالرغم من هذا النجاح الباهر لم تبق للعمل في مصر بل عادت الى دمشق حيث واجهتها نفس المصاعب وأدت الى اصابتها بنزيف دماغي اودى بحياتها في عام 2005 ولما تبلغ الاربعين من عمرها! وقبل أيام شاهدت على احدى الفضائيات برنامجاً معاداً عن حياتها ومأساتها ونهايتها المحزنة بما يشبه التأبين لكنه حمل تقديراً كبيراً لفنها المميز الجميل، ثم تشاء الصدف أن أشاهد في اليوم التالي حفلاً غنائياً ساهراً على التلفزيون السوري مبثوثاً من بلدها حلب التي تربّت في بيئتها العريقة وفي حصن تراثها الثقافي المدهش، وقد تجمعّ عند سفح قلعتها التاريخية في الهواء الطلق جمهورٌ حاشد كان يغني ويرقص مع مطرب حلبي يردد قدودها المشهورة فبدا جلياً أن الحياة الحلوة تعود الى المدينة العظيمة من جديد بعد أن حاول الدواعش لا أن يدمروها فحسب بل كذلك ان يخنقوا روحها الفنية.. وفشلوا.
 
وبعد.. فان كارهي الحياة والموسيقى وكل الفنون أحرار في حرمان انفسهم من هذه النعم والمتع، اما أن يحرموا الآخرين منها فتلك جريمة فظيعة يتوجب علينا جميعاً أن نشارك في فضحها ومنعها بكل الوسائل التي نملكها أو نجيدها.. في كل أوان وكل مكان!