Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    29-Nov-2015

التحرير والتقييد… تضاد لا ترفعه إلا الكتابة

القدس العربي-في مؤلفه «القول الفلسفي: كتاب المفهوم والتأثيل» الذي خُصص للخوض في مسألة العبارة الفلسفية، عاد طه عبد الرحمن للحديث عن موضوع علاقة الفلسفة بالترجمة، وهو الموضوع الذي سبق أن أفرد له مؤلفا كاملا يحمل العنوان نفسه، إلا أن عودته هذه المرة استدعاها داعي الرد على الذين انتقدوا ترجمته للكوجيتو الديكارتي بعبارة «اُنْظُرْ تَجِدْ». ولسنا نرغب ها هنا في استعادة فحوى هذا الرد الذي خص به الكاتب نقاده، على خصوبته وعمقه (ما يربو على الخمسين صفحة تقريبا من الكتاب) بقدر ما نريد التوقف عند نقطة دالة تناول فيها الكاتب الفرق بين التحرير والتقييد.
أما انهجاس الكاتب بأمر تحرير القول الفلسفي العربي من ربقة التقليد الذي اكتنفه وأمسك بخناقه منذ بداية الفكر الفلسفي على أرض يونان إلى فترتنا الراهنة، فمسألة يدل عليها قوله: «من أجل أن نتبين الأسباب التي تجعلنا نقع في تقليد الغير ولا تجعله يقع في تقليدنا، عسى أن نظفر بها، فنسعد بتحرير قولنا كما سعد هذا الغير بحرية قوله؛ ولا أنسب لغرضنا ولا أحب إلى قلبنا من معنى «التحرير»! والتحرير الذي يدعو إليه الكاتب ها هنا ليس سوى التعاطي للكتابة الفلسفية من منظور يقوم على تأثيل المفاهيم، سواء تلك التي قام بوضعها واجتراحها بنفسه أو تلك التي استقاها من غيره تأثيلا يراعي مقتضيات المجال التداولي العربي، وينسجم مع الرسالة الفلسفية التي تهدف إلى ترسيخ الاختلاف والحرية لا تكريس الائتلاف والتبعية، وتجلو بعمق طبيعة الفيلسوف كشخص حر طليق يأبى أن توضع في عنقه الأغلال، أو على فمه الأقفال. وهو ما لم يتفطن إليه متفلسفة الإسلام، حسب طه، فغدت إنتاجاتهم الفلسفية على كثرتها وغزارتها مزجا بين النقل والتأليف، إلى الحد الذي نقول معه «إن المتفلسف العربي الذي يؤلف، لا يؤلف إلا ناقلا»، بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد وإنما تعداه نحو تقديس ما جاء به فلاسفة الإغريق تقديسا يضاهي تقديس علماء المسلمين للنصوص الدينية، حتى أمسى كل دخول «في إبداع فلسفي على غير طريقة المنقول اليوناني، يغدو نازلا منزلة الابتداع، فيصبح عندئذ الكلام عن «البدعة الفلسفية» على غرار الكلام عن «البدعة الدينية».
صحيح، أن أزهى عصور الفكر غالبا ما تقترن بازدهار حركة الترجمة، وأن الفلسفة اليونانية لم تحيا إلا في الترجمات العربية، كما ذهب إلى ذلك عبد السلام بن عبد العالي، إلا أن ما ينتقده طه عبد الرحمن في هذه الترجمة العربية بالخصوص هو إما اكتفاؤها بإحدى صور الترجمات الثلاث: الترجمة التحصيلية التي تتمسك بحرفية اللفظ، أو الترجمة التوصيلية التي تتمسك بحرفية المضمون، أو الترجمة التأصيلية التي تتصرف في المضمون كما في اللفظ، وإما الاعتماد عليها جميعا، ولكن وفق الترتيب الذي أدرجناه بها أعلاه، وهو ما لا يقبله طه بناء على مسوغ يرى أن الترجمة المبدعة هي التي تعكس هذا الترتيب فتبدأ بالترجمة التأصيلية، حتى إذا تمكن المتلقي من استيعاب المنقول إليه على الأقل في الأشياء التي توافق عاداته اللغوية والمعرفية، جاز له بعد ذلك أن يلجأ إلى الطريقة التوصيلية حتى يتأتى له الاطلاع على المضامين التي تخرج عن مألوف عاداته، ومتى اقتدر على ذلك أمكن له الانتقال إلى الطريقة التحصيلية لكي يظفر بالطرق التعبيرية التي تم بها بناء هذه المضامين في الأصل. وبالجملة، فإن ما رامه طه من خلال موقفه هذا هو أن لا يظل القول الفلسفي العربي استنساخا للقول الفلسفي الغربي، بل بذلا للجهد في إخراج شيء من شيء واجتهادا متواصلا في إنتاج أصل على أصل إذ «لا معنى للنقل إن لم يكن انتقالا، ولا للبقاء إن لم يكن تحولا وتجددا، ولا للتجدد إن لم يكن نموا وتكاثرا»، وليس من الإبداع في شيء أن يتبع المترجم المؤلف حذو النعل بالنعل، وأن يُبقي على «زلاته وهناته» أو ما بدا أنه كذلك بدافع الأمانة، فقد انتقد ابن سبعين ابن رشد في متابعته العمياء لأرسطو قائلا: «وهذا الرجل [أي ابن رشد] مفتون بأرسطو ومُعَظم له، ويكاد أن يقلده في الحس والمعقولات الأولى، ولو سمع الحكيم يقول: إن القائم قاعد في زمان واحد، لقال به واعتقده، وأكثر تآليفه من كلام أرسطو، إما يلخصها وإما يمشي معها [...] ولا يعول عليه في اجتهاده، فإنه يقلد أرسطو». وفي كلام ابن سبعين هذا ما يشي بأن المترجم لا ينبغي أن يقترب من المؤلف إلا ليبتعد، لا بد له من رشة إبداع تبقي له تفرده وتسبغ عليه رداء المبدع على شاكلة إبداع المؤلف.
بهذا المعنى يمكننا القول إن الكتابة الفلسفية المتحررة هي كسر للقيود وتخلص من الأصفاد التي وضعها من لم يروا في التفكير إلا «تفكيرا مثل» لا «تفكيرا من خلال»، وإذا كان التحرير هاهنا قد عُد نقيضا للتقييد، وذاك ما تطلعنا عليه المعاجم العربية، حيث نجد في «لسان العرب» ما يلي: «وتحرير الكتابة: إقامة حروفها وإصلاح السقط . وتحرير الحساب : إثباته مستويا لا غلث فيه ولا سقط ولا محو . وتحرير الرقبة: عتقها» فإن طه عبد الرحمن وجد ضالته في ما بدا لغيره تناقضا، وعثر على مبتغاه حيث رأى غيره التضاد قائما، يقول: «ولا أخص بهذا اللسان من هذا النوع العجيب من الألفاظ الذي أطلق عليه أهله اسم «الأضداد» وحار فيه غير أهله حيرة لم يخرجوا منها قط ؛ أما نحن، فلا نجد في هذا التضاد، إلا ميزة فوق ميزة». وعلى هذا، كان التحرير في الكتابة عنده إصلاحا لما لازمها من هنات وسقط، ناتج عن تقليد أعمى وتوثيق يسلك فيه صاحبه بمنطق «وقوع الحافر على الحافر»، وعتق لها من رق استعبدها لعهود طويلة، وإثباتها مستوية بعد ما لحقها من اعوجاج ناجم عن لزوم الغير وتعظيمه وتحقير الذات وفقدان الثقة في قدرتها على الإبداع.
وتبعا لذلك، لم يرَ طه في التحرير والتقييد تعارضا، بل ائتلافا وانسجاما يأخذ معنى واحدا في الكتابة؛ فالتحرير وإن كان يفيد معنيين اثنين يبدوان متناقضين هما: «إزالة القيد» من جهة و»إجادة القيد الذي نسميه بالتقييد» أو الإثبات الجيد للشيء بواسطة الكتابة من جهة أخرى، فإن هذا التناقض سرعان ما يرتفع حين ندرك أن كلا المعنيين يصبان في معنى واحد يفيد إزالة قيد هو عبارة عن تسجيل لكتابة فلسفية لا تورث إلا التبعية للغير بقيد هو عبارة عن تسجيل لمأصول فلسفي يورث صاحبه الاستقلال بالرأي، بعبارة أخرى يمكننا القول إن طه يرى في التحرير خروجا من تقييد إلى تقييد، «من تقييد هو اتباع وتقليد إلى تقييد هو اجتهاد وتجديد»، أو لنقل إن التحرير هو تملص من براثن الرق والاستعباد وسقوط في أحضان الحرية وتجديد الصلة المفقودة بها، لتصبح الكتابة بذلك حرية والحرية كتابة ويغدو التقييد تحريرا والتحرير تقييدا.
 
كاتب من المغرب
 
عبد القادر ملوك