Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Oct-2015

القدس القديمة .. مدينة تحمل فوق طاقتها* جون ريد

40 ألف شخص يعيشون في أقل من كيلو متر مربع واحد هو كل مساحة المدينة العتيقة

فايننشال تايمز - تعيش عائلة المشرقي - الأم والأب وأبناؤهما الخمسة - في مكان خلاب متداع، مكون من أربع غرف مقببة بشكل أنيق، لكنها صغيرة جدا يعود تاريخها إلى العهد العثماني.

عندما تسقط الأمطار في الشتاء وتتخلل جدران المباني القديمة التي يقدر عمرها بحدود 300 عام في الحي الإسلامي من مدينة القدس القديمة، تتسرب المياه إلى الداخل أيضا. هناك صدع عميق يدل على وجود أضرار هيكلية يمتد عبر جدار غرفة المعيشة.

تقول عائلة المشرقي - وهي عائلة من العرب المسيحيين تعيش في الشقة بالإيجار - "إنهم قد يفكرون في الانتقال إلى سكن أوسع عبر الجدار الإسرائيلي العازل في الضفة الغربية، إذا كان ذلك لا يعني مصادرة حقهم الثمين في العيش، والدراسة، والتنقل بحرية في القدس والعمل في الاقتصاد الإسرائيلي الأقوى".

يقول الأب، زكريا، البالغ من العمر 44 عاما، ويعمل سائقا "إذا عشت خارج الجدار، فسأخسر بطاقة هويتي وحقوقي. الناس يعيشون في غرفة واحدة، مع حمام واحد، فقط لمجرد أن يكونوا في القدس".

تبلغ مساحة شقة عائلة المشرقي، في منزل قديم مقسم بين أسرتين، نحو 55 مترا مربعا - وتعتبر كبيرة بحسب مقاييس الحي الإسلامي، حيث تنحصر العائلات بأكملها أحيانا في غرفة واحدة.

من الطبيعي أن تكون مئات المباني مهملة في مدينة القدس القديمة - وهي موقع تعتبره الأمم المتحدة من التراث العالمي المعترف به. لكن المؤرخين والمرممين يقولون ليست فقط المباني هي التي تتعرض للتهديد، بل الإرث الثقافي لمدينة تعتبر مقدسة بالنسبة إلى الديانات التوحيدية الثلاث. ومن هذا الباب فهو إرث مهم لنحو نصف سكان العالم.

يستوعب الحي التاريخي في القدس عددا من الناس فوق الحد في حيز صغير دون الحد - وهذا نتيجة مباشرة للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني الذي يطالب فيه كلا الشعبين بالمدينة عاصمة له. نتيجة لذلك، كثير من المباني المهمة تاريخيا تظهر عليها أضرار ناجمة عن الانقسامات السياسية والدينية في المدينة، وبسبب نقص المساكن ذات الأسعار المعقولة. المشكلة الرئيسية ليست المال - المدينة مغمورة بالدعم المقدم من كثير من المحسنين الأجانب - بل هي الضغوط المفروضة على المباني القديمة بسبب عدد السكان الكبير، الذين يوجد لدى معظمهم احتياجات أكثر إلحاحا من المحافظة على الموقع التاريخي. يقول دانيال سيديمان، وهو محام مختص في العلاقات الإسرائيلية - الفلسطينية في القدس "ما تحتاج إليه المدينة القديمة من أجل استعادة عافيتها هو أن يغادرها بعض السكان، ولن تحصل على ذلك أبدا ما دام الصراع الديمغرافي مستمرا. أنت تتحدث عن غرغرينا، إنه خراب".

تقسيم المدينة

يعيش نحو 40 ألف شخص في المدينة القديمة التي تبلغ مساحتها أقل من كيلو متر مربع واحد. أدى هذا الاكتظاظ إلى بناء العائلات الفلسطينية مباني إضافية مرتجلة - عادة دون إذن تخطيط - في الساحات، أو على أسطح المباني القديمة التي تعود إلى عدة قرون.

جنبا إلى جنب مع المواقع ذات الشهرة العالمية، مثل المسجد الأقصى وكنيسة القيامة – تعرض المسجد لأضرار في الاشتباكات الأخيرة بين الشباب الفلسطينيين والشرطة الإسرائيلية - يوجد في المدينة كثير من المباني التي يراوح تاريخها من الحقبة الإسلامية المبكرة إلى أيام الانتداب البريطاني. ويقول المختصون "إن أكبر عدد من المباني المعرضة للخطر يوجد في الحي الإسلامي، حيث العائلات أكبر ويعيش بعض الناس الأشد فقرا في المدينة".

يقول نظمي الجعبة، وهو أستاذ تاريخ وعالم آثار فلسطيني في جامعة بيرزيت في الضفة الغربية "تعاني معظم الأحياء الفلسطينية المجاورة داخل المدينة القديمة وضعا كارثيا". ويقدر أن نحو 25 في المائة من المدينة القديمة "معرض للخطر" بسبب الإهمال وضعف الصيانة أو الاكتظاظ. وتعود المشكلات المتعلقة بالحفاظ على المدينة القديمة إلى طابعها الفريد: تدَّعي إسرائيل السيادة على القدس بأكملها، بما في ذلك الجزء الشرقي العربي، الذي تقع فيه المدينة القديمة. لكن في الممارسة العملية، غالبا ما يعمل المستأجرون الأفراد والمحافظون على التراث بشكل مستقل، بسبب انعدام الثقة بطبقة الموظفين الإسرائيليين، أو بسبب الخوف من التأثير في العلاقات الحساسة مع الجيران أو المالكين.

يقول أحد المستأجرين لمنزل قديم جدا بالقرب من طريق الآلام - أحد الشرايين الرئيسية في المدينة القديمة - الذي يعاني تساقط الجبس والرطوبة "أنا لا أطلب من الإسرائيليين القدوم إلى منزلي لتجديده لأنني أعرف مخططاتهم ونواياهم". كذلك الحال بالنسبة إلى بعض الفلسطينيين الآخرين الذين قال واحد منهم، طالبا عدم ذكر اسمه "قد أخسر منزلي". ويقول مرممون "إنهم يحرزون بعض التقدم، لكنهم يحتاجون إلى اختصار بعض النفقات المتعلقة بالدقة التاريخية للمباني من أجل إيواء العائلات".

وبحسب سيديمان "القدس مبنية على ساحات. هناك مثل هذا التدفق من الناس، والبناء غير القانوني المتفشي فيها هو بناء عشوائي وغير مخطط له ويعمل على تدمير المدينة القديمة".

في الوقت الذي يصدم فيه تنظيم داعش العالم بتفجيره المعالم الثقافية، قد يبدو من غير المتناسب التركيز على القليل من المباني المتهدمة. لكن مع انحسار آفاق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، تُعتبَر هياكل القدس المهملة بشكل متزايد ضحية ثقافية للصراع. ويعد الحفاظ على المدينة، مثل معظم القضايا الأخرى في القدس، مسألة انقسامية وحساسة من الناحية السياسية. هنا التأخير مشكلة متأصلة بعمق، وسوء الفهم يؤدي إلى تفاقم الأضرار طويلة الأجل.

وفي حين إن إسرائيل، بوصفها سلطة محتلة في القدس الشرقية، تتحمل كامل المسؤولية عن المدينة القديمة، تكون مسببات الإهمال معقدة بسبب وضعها الفريد متعدد الثقافات وحقوق الملكية المعقدة.

جانب من المدينة العتيقة التي تعتبرها منظمة اليونسكو جزءا من التراث الثقافي الإنساني.

فنحو نصف عقاراتها يخضع لإدارة مختلف صناديق الائتمان الدينية الإسلامية والمسيحية. والجماعات التي تتلقى التمويل من الجهات المانحة الأجنبية والمحلية التي تمثل المصالح المختلفة مثل جمعيات الرعاية الاجتماعية للمسلمين، أو المستوطنين اليهود الذين يتولون مسؤولية المشاريع الفردية.

وتدعي "سلطة الآثار الإسرائيلية"، وهي هيئة تابعة للدولة، المسؤولية من حيث الحفاظ على المدينة القديمة. وجنبا إلى جنب مع بلدية القدس، تشرف على جميع مشاريع التجديد. وبموجب القانون الإسرائيلي، المشاريع التي تشمل الحفر - أو رفع السقف – تتطلب حفريات أثرية، وهو احتمال يخشاه كثير من سكان المدينة القديمة الفلسطينيين.

علم الآثار

حتى العلم نفسه مضمن في الصراع، إذ إن علماء الآثار يقومون بالحفر في وحول المدينة القديمة بحثا عن - وغالبا ما يجدون - دلائل لوجود يهودي قديم، وتراوح تلك الدلائل من قطع نقدية ونقوش يهودية إلى آثار وأنقاض. بدورهم، يتهم الفلسطينيون الإسرائيليين باستخدام علم الآثار أداة سياسية، ويلقون باللوم على أعمال حفر الأنفاق بالتسبب في حدوث تشققات وصدوع في بعض مبانيهم.

يقول يوناثان ميزراحي، المدير التنفيذي لشركة إيميك شاهيف ـ وتعني الأرضية المشتركة ـ وهي مجموعة إسرائيلية تركز على دور علم الآثار في الصراع "هيئات مختلفة تتولى المحافظة (على الآثار)، لكن لا أحد ينسق أعمال الهيئات المختلفة. هذه هي المشكلة الأكبر".

قبل وقت طويل من تأسيس إسرائيل في عام 1948، كافح آخرون التحدي المتمثل في الحفاظ على إرث مدينة القدس وفي الوقت نفسه استيعاب سكان المدينة المسلمين والمسيحيين واليهود والأرمن وغيرهم، الذين يعيشون في أحياء متقاربة، لكن منفصلة تماما.
في عام 1917، عندما استولت بريطانيا على فلسطين من الأتراك، اقترح عالم الآثار، فليندرز بيتري، نقل معظم سكان القدس إلى "بلدة تجارية" جديدة. قال "إن أول شيء ينبغي فعله هو أن نتخلص قدر الإمكان من مسألة سكن البشر، والحفاظ على المدينة ملاذا للأديان الثلاثة". لكن لم يتم قط تنفيذ ذلك الاقتراح الذي كان يصب في مصلحة القدس بشكل دائم. اليوم، تتولى سلطة الآثار الإسرائيلية إدارة قضايا التراث في المدينة القديمة، بما في ذلك الجدران. يقول يوفال باروخ، وهو عالم آثار في سلطة الآثار الإسرائيلية "القدس هي الموقع الأكثر تعقيدا فيما يتعلق بمسألة الحفاظ في كل أرض إسرائيل (...) لأنها مدينة حية".

ويضيف أن "منظمته تعمل مع مختلف المجتمعات المحلية، بما في ذلك الهيئات المسيحية والأوقاف الإسلامية - الهيئة الدينية التي تدير المواقع الإسلامية في المدينة". ويصف الناس الذين يعيشون في المباني التاريخية بأنهم جزء من "النسيج القديم للمدينة القديمة". ويقول "نحن لا نتعامل مع السياسة. لسنا جزءا من الصراع".

لكن لا يمكننا إنكار أن الصراع عمل على تغيير وجه المدينة. فقد شهدت المدينة القديمة تدفقا لأعداد كبيرة من السكان الفلسطينيين بعد توقيع اتفاقيات معاهدة أوسلو في أوائل التسعينيات، عندما تسبب إنشاء السلطة الفلسطينية وإقامة نقاط التفتيش في الضفة الغربية في اندفاع كثير من الناس لتأمين هويات زرقاء في القدس. وأدى ازدياد الأعداد - أكثر من 50 في المائة منذ عام 1967 إلى 27 ألف شخص - إلى تفاقم المشكلة التي كانت قائمة أصلا وجعلها أكثر حدة.

وتعيش العائلات الكبيرة الآن بشكل مكتظ في شقق تم اقتطاعها مما كان في العادة منزلا لأسرة واحدة، بما في ذلك المباني العثمانية، أو المباني التي تعود إلى عصر المماليك. ومن أجل توفير متسع للسكن، ربط عديد من الأسر المطابخ والحمامات والغرف الإضافية بالطوابق العليا أو الساحات. وتمت تغطية المناطق التي كانت تعج ذات مرة بالضوء.

تم كثير من ذلك البناء دون الحصول على إذن من السلطات الإسرائيلية، أو البلدية، لأن الفلسطينيين يخشون أن يتم رفض ذلك - غالبا ما يتم رفض طلبات الحصول على تصاريح بناء في القدس الشرقية - أو أنهم لا يريدون دعوة المسؤولين إلى بيوتهم.

وترصد كاميرات الأمن الإسرائيلي عملية دخول مواد البناء من خلال جدران المدينة والأنقاض التي يتم سحبها للخارج. لكن لتجنب التدقيق، ألقت بعض الأسر بالأنقاض في الساحات، الأمر الذي أدى إلى انسداد آبار المياه القديمة.

يقول الجعبة "حتى لو جددنا المدينة القديمة تماما، لا يوجد لدى الناس الذين يعيشون في تلك المباني توجه نحو التراث الثقافي. اهتمامهم يتركز في تأمين لقمة العيش (...) وليس في الحفاظ على المباني".

وفي بعض الممتلكات المملوكة للقطاع الخاص، هناك المشكلة الإضافية المتمثلة في الملاك الغائبين. بدأت العائلات الفلسطينية التي كانت تمتلك بيوتا في المدينة القديمة، الانتقال إلى ضواحي القدس في أواخر القرن التاسع عشر، وعملوا على تأجير شققهم. وبعد تأسيس إسرائيل في عام 1948، ومن ثم احتلال القدس الشرقية في عام 1967، هرب بعضهم إلى المنفى. واليوم يتردد بعض المستأجرين في فتح شققهم للمرممين خشية أن يتم إرغامهم على دفع مزيد، أو أن يتم طردهم.

يقول جورج هينتليان، وهو مؤرخ أمريكي، عن الأجزاء المهملة من الحي الإسلامي "إنه حي فقير تماما. لا يستثمر الملاك لأنهم لا يجنون أي عائدات".

ويصف يوسف النتشة، رئيس قسم السياحة والآثار في دائرة الأوقاف الإسلامية، التحديات المتمخضة عن العمل مع المقيمين في مشاريع الترميم، قائلا "هنالك فقراء يعيشون في مبان تعود إلى القرنين الثالث عشر والرابع عشر ويرغبون في توسيع المكان للحصول على مساحة إضافية لخزانة، أو التخلص من أرصفة العتبات القديمة لأنهم تعبوا من تنظيفها. أي نوع من القانون يخولني أن أقول لا"؟

القوى الخارجية

كان للتدخلات الخارجية أثر ضئيل، جزئيا بسبب حساسية إسرائيل تجاه مكانة المدينة والنزاعات السياسية التي تثيرها مثل هذه المناقشات.

اليونسكو، وكالة الأمم المتحدة التي تصنف المدينة القديمة ضمن "الأماكن المعرضة للخطر" في قائمة مواقع التراث العالمي، عبرت عن "القلق العميق" بخصوص عمليات الحفر الإسرائيلية وانتقدت المشاريع الأحادية، بما في ذلك خط الترام المثير للجدل في القدس، الذي يسير قريبا من جدران المدينة.

من جانبها، حكومة إسرائيل تتهم اليونسكو بتجاهل الروابط اليهودية والمسيحية للمدينة. وفي تموز (يوليو) الماضي، حين انتقدت الدول العربية إسرائيل لتنفيذها أعمال حفر ومشاريع أخرى، رفضت الحكومة الإسرائيلية هذه الاتهامات على أنها "تمثل جانبا واحدا فقط".

على الأرض في القدس، بدأت سلطة الآثار الإسرائيلية في مشروع تجريبي يشتمل على خمسة شوارع من المساكن الخاصة في حي مجاور للحي المسيحي والحي الإسلامي. والهدف من المشروع هو البدء في ترميم الشوارع والكهرباء والماء وغيرها من جوانب البنية التحتية، ومن ثم التعامل مع احتياجات الترميم للمساكن الخاصة.

يقول باروخ "قلنا (دعونا نبدأ بالمناطق العامة ومن ثم ربما نصل ببطء إلى الممتلكات الخاصة). هذه عملية وهي مسألة تحتاج إلى وقت".

لكن آخرين في القدس يرون أن تراث المدينة لن يتم تأمينه إلا من خلال حل النزاع السياسي الأوسع.

 

يقول مزراحي "لا بد من نوع معين من اللجان الدولية التي تشتمل على لاعبين مختلفين - من الإسرائيليين والفلسطينيين وغيرهم من أصحاب المصالح. إذا بقيت أنشطة الآثار حصريا في أيدي الإسرائيليين أو الفلسطينيين، فلن يتم حل أي شيء".