Wednesday 24th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-Nov-2017

لسلم الحضارات اتجاهان، إما الصعود وإما الهبوط - م. حاتم يونس

الراي -  كم من فكرة لفيلسوف أو عبارة لكاتب أو رسم لرسام أو تمثال لمَثَّالٍ استوقفني فأخذت أفكر فيه وأتأمله ملياً حتى عاودني السؤال ذاته: «هل عاش هذا المبدع حقاً في زمن قبل زمننا هذا؟»

بالطبع يعي عقلي تمام الوعي أن الماضي سابق على الحاضر وليس العكس. ولكن وجداني ينسى هذه الحقيقة أحياناً، لبضعة ثوانٍ، من شدة ما تبهرني إبداعات تأتينا من ماضي الإنسانية متفوقةً على ما في حاضرنا من أعمال أدبية وفنية وفكرية، على الرغم من التطور التكنولوجي الذي أحرزته البشرية على مدار القرون التي تفصل بين هذه وتلك. فكيف لوجداني أن يتعامل مع كون الإنسانية مضت من عصر موليير إلى عصر كيم كارداشيان؟ عرفت أوروبا عصر النور الذي أَشَّعَ فكره فيما بعد عبر العالم وأدى إلى تغيير وجه الكرة الأرضية بأكمله، بعدما بلغ جنبات العالم كله.
 
واستثمر هذا الفكر كثيرا من مفكري وفناني وقادة العالم شرقاً وغرباً، آخذين أُممهم إلى الأمام بسرعة فائقة وبوتيرة متسارعة. ولقد عَرَّفَ الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، الذي كان من فلاسفة هذا العصر، النور كفكر إنساني، قائلاً إنه «خروج المرء من أقليته التي هو مسؤول عنها. والأقلية هي عدم قدرة المرء على التفكير دون أن يُوَجَّه من قِبَلِ غيره». ويعني ذلك أن النور، أو بالأحرى الاستنارة، في هذا السياق، هي أن يقود الإنسان نفسه بنفسه، حراً طليقاً مسؤولاً عن قراراته. ولقد أضاف كانط أن سبب وقوع المرء في هذه الأقلية الفكرية هو افتقاره إلى ما يكفي من شجاعة لكي يعتمد على نفسه في اتخاذ القرار وليس نقصاً في قدرته على التفكير في حد ذاتها.
 
ومن ثم فإن الحرية اختيار يأخذ الإنسان من حال الضعيف التائه إلى حال صاحب القرار المسؤول. ومن الممكن أن يأخذ الإنسان مسلكاً آخر لنفسه مُفَضِّلاً أن يبقى في تلك الأقلية التي تجعل منه أداة في يد غيره. وكان هذا بالضبط هو صراع من صنعوا فلسفة النور.
 
وبنى بعض فلاسفة عصر النور ومن أتوا بعدهم ممن انتهجوا ذات المنهج فكرهم على أن تاريخ البشرية يسير في اتجاه واحد هو اتجاه التطور الإنساني وتحرير الإنسان، حالمين أن يأتي يوم على البشرية تبلغ فيه السعادة التامة دون أن تُكَبِّلَها في ذلك الديكتاتورية والاستعباد والتطرف والتخلف وغيرها من العناصر التي كانوا يحاربونها. ولكننا اليوم في عصر كيم كارداشيان لا نزال مُكَبَّلين بغلال تُشبه تلك الغلال وربما هي أكثر منها إحكاماً. بل بيننا كثيرون ممن يفرضون على أنفسهم أن يعيشوا فيما سماه كانط «الأقلية».
 
لقد صنع عصر النور مفكرين محبين للحرية والتقدم، رأوا ما قدموا للبشرية مثلما رأوا استجابتها لفكرهم ونتائج ذلك على مُضِّي التاريخ قدماً على نحو يبعث على التفاؤل. ولكنهم أفرطوا في تفاؤلهم. فليس لهذه السعادة المنشودة من طريق مستوٍ واضح المعالم، حيث تتحكم فينا عوامل متضاربة متصارعة تسكن عقولنا قبل أن نُسْكِنَها نحن حياتنا. ومن ثم فالحضارة أشبه بسلم يمكن تسلقه مثلما يمكن نزول درجاته أو حتى القفز من فوقه. والمسألة في النهاية اختيار تتخذه المجتمعات بطريقة شبه جماعية متأثرةً بهذه العوامل المتضاربة التي تسكن عقل الإنسان.
 
من البديهي أن ما أدى بنا إلى أن نسير من موليير إلى كيم كارداشيان هو جملة اختيارات جماعية جعلتنا ننزل درجات سلم الحضارة مهرولين. فالحرية مسؤولية قد تملها البشرية أحياناً. ولكن الحياة لا تخلو من الأمل. والأمل هو الذي جعل صُنَّاعَ عصر النور يعملون على صنعه. ولا شك أنه لا يزال قائماً طالما بقي سلم الحضارة قائماً.