Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    18-Jun-2021

سعدي يوسف.. علاقة عابرة

 الدستور-إبراهيم خليل

 
لم تكن علاقتي بشعر سعدي يوسف علاقة وطيدة كعلاقتي بشعر محمود درويش أو البرغوثي أو المناصرة أو فدوى طوقان ولكني أتذكر كما لو أن هذا يحدث الآن يوم ابتعت عددا من مجلة الآداب البيروتية في تموز - يوليو 1967 فاستوقفتني قصيدة بعنوان تأملات عند أسوار عكا. كانت القصيدة مؤرخة بتاريخ 31 تموز 1967 وكنا في ذلك الحين لم نفق من صدمة الإحساس بالهزيمة التي ألحقتها إسرائيل المعتدية بثلاثة جيوش عربية جرارة فما كان من هذا العنوان إلا أن جذبني نحو القصيدة والشاعر الذي لم اسمع به من قبل، ونحو البلدة التي كتب فيها القصيدة وهي مدينة بلعباس، وعرفت لاحقا من إشارات أخرى صدرت عنه أنها في الجزائر وأنه عراقي يعمل في القطر الجزائري الشقيق.
 
على أن القصيدة أذهلتني، فعدا عن صدمة العنوان، لاحظت أن الشاعر – ولم أكن أعرف شيئا عن خلفيته الأيديولوجية- تنبأ في حينه والجراح ما زالت تنزف بصعود المقاومة الفلسطينية من غبار النكسة، ونقع الهزيمة المثار، وأن السلاطين الذين خاضوا ضد الكيان الإسرائيلي حربا بلا استعداد ولا تهيؤ جديرون بهزائم متلاحقة ومنكرة كهذه، ولهذا جاء في قصيدته هذه ما يوحي بهذا التغيير المنتظر:
 
جيش السلاطين طوى راية
 
أريد أن تطوى
 
فلترتفع في السوق راياتنا
 
وليبدأ الأقوى
 
وهذه القصيدة ،على الرغم من قصرها، استأثرت باهتمامي، لما فيها من التعبيرات غير المباشرة عن دور الشعر المقاوم في استنهاض الهمم، وشحذ الروح النضالية، بعيدا عن الشعارات التي تفرغ الشعر من جمالياته، وتجعل منه منشورا كتلك المنشورات التي توزعها الأحزاب المحظورة على قواعدها الشعبية سرا لا جهرا. ولهذا نجد في القصيدة هذا النسق الموارب في الإشادة بالمقاوم الذي لما يظهر بعد، يقول سعدي يوسف على لسان هذا المقاوم في تأملاته عند أسوار عكا ما يأتي:
 
عشرون ألفا عند أسوارها
 
ماتوا ولكنني من أجلهم عشتُ
 
كان جوادي متعبا متعبا
 
أعرافه الموتُ
 
وكانت الأسوار عندي صخرةً صخرةً
 
ومنجنيقا منجنيقا أيها الصمتُ
 
يا أيها الصوت الإلهيُّ
 
أنا الأسوارُ والموتُ
 
ومن يوازن بين هذه القصيدة، وقصيدة أخرى كتبت قبل ذلك بنحو شهر في 13 – 6 من العام نفسه، لأمل دنقل بعنوان « البكاء بين يدي زرقاء اليمامة « يتضح له الاختلاف بين رؤيتين للواقع؛ إحداهما تستند لخلفية إيديولوجية تمكنه من فهم المجريات، والتعليق عليها، والتنبؤ بالمحتمل، والمتوقع من التغيير، والمنتظر، والأخرى لا تستند لمثل هذا فتترك لردود فعل الشاعر الغضبى أن تحدد له موقفه بما يتطوي عليه من خطورة. ولهذا نجد فرقا بين « تأملات « و « البكاء « وهما المفردتان الطاغيتان على القصيدتين، فأمل دنقل – وهو شاعر كبير بلا ريب- وصادق الإحساس، والتعبير عما يحس به ويشعر ، يقول مخاطبا زرقاء اليمامة التي تخيلها في إهاب كاهنة معاصرة حذرت القوم من عدوان الخصوم، وغزوهم، فلم يمنحوها آذانا مصغية بل منكرة:
 
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار
 
فاستضحكوا من وهمك الثرثار
 
وحين فوجئوا بحد السيف قايضوا بنا
 
والتمسوا النجاة والفرار
 
ونحن جرحى القلب.. جرحى الروح.. والفم ..
 
لم يبق إلا الموتُ والحطامُ والدمار
 
ونسوة يُسقْن في سلاسل الأسر ، وفي ثياب العار
 
وصبية مشردون يعبرون آخر الأنهار
 
لقد عني أمل دنقل بالتعبير عن الراهن، وعن وقع الانكسار، وما فيه من مرارة وألم، لكن سعدي يوسف – وكان شيوعيا- لم يقتنع بهذا، ولم يكفه التفسير في قوله « جيش السلاطين طوى راية « بل انتقل خطوة في الاتجاه الصحيح، وهي الرد على هذا الانكسار، وتلك الانتكاسة، متوقعًا ظهور النضال الذي يعني في ما يعنيه :
 
كرهتُ سيفي
 
وذراعيّ على أسوار عكا
 
وكرهتُ الجميع
 
غمستُ حتى مقلتي في النجيع
 
أحرقتُ أسمائي وها إنني
 
أدعى صلاح الدين أدعى الجميع
 
فمع ما يمثله صلاح الدين من رمز تاريخي ذي دلالات على الارتباط بفلسطين، وعكا تحديدا، وتحريرههما من الصليبيين، يكون الشاعر سعدي يوسف قد قد جاء في شعره بما يعد ردا على صدمة الانكسار، وقسوة الاندحار، أمام الفاشيين، الذين ما فتئوا يشنون الحروب حربا تلو الأخرى . وبعد 36 عاما من تلك القصيدة، أي في العام 2003 عكفت على كتاب لي بعنوان « مدخل لدراسة الشعر العربي الحديث « فاستعدت ذكرى تلك القصيدة التي نشرت لاحقا في إحدى مجموعاته الشعرية وعنوانها « بعيدا عن السماء الأولى « ثم أعيد نشرها في الأعمال الشعرية (1/ص333) فوجدت صداها كأنه لم يفارقني، فأعدت الحديث عنها في الكتاب، واقتبست منها مقاطع، ولم يكفني ذلك فأضفتها للمختارات (ص407- 408) ولاحقا في العام 2016 عكفتُ على جمع ما نشرته من دراساتٍ، وبحوثٍ، عن الشعر العربي الحديث، وأعدت النظر فيه لينشر في كتاب بعنوان حاضر الشعر وتحولات القصيدة، وفي الأثناء وقفت على مقال ممتع لشيخ النقاد إحسان عباس عن القرين، وتوظيفه في بناء القصيدة، والمقال الذي ورد في كتابه اتجاهات الشعر العربي المعاصر (الشروق:1992) ص 60- 61 يذكرنا بديوان سعدي الأخضر بن يوسف ومشاغله. (1972) وفي المقال يتوقف الناقد عباس عند قصيدة بعنوان لنبي يقاسمني شقتي، وتوافق أن تكررت الإشارة لهذه القصيدة في رواية « حيث لا تسقط الأمطار « للشاعر الراحل أمجد ناصر مرارا وتكرارا. وتزامن اطلاعي على هذا كله مع اطلاعي على كتاب د. امتنان الصمادي شعر سعدي يوسف (2001) اطلاعا متأخرا، فوجدت فيه إشارة لما ذكره إحسان عباس، وبقيت هذه الإشارات تتواتر في ذهني وأنا أقرأ ديوان اللبناني الشاعر شوقي بزيغ، قبل أن يصبح روائيا بتكليف من البوكر – فألفيتُ التشابه بين قصيدة سعدي يوسف وقصيدة شوقي بزيغ (مرثية الغبار) وتوظيفهما للقرين أوضح من أن يخفى. وعلى الرغم من التشابه الذي لا يمكن إنكاره فإن قصيدة بزيغ أكثر تركيبا وتعقيدا من قصيدة سعدي يوسف، إلا أن الاهتمام انصب على قصيدة يوسف ولم تحظ قصيدة اللبناني بغير الاهمال التام والتعتيم الدامس. وفي ظني أن الناقد إحسان عباس لو اطلع على قصيدة بزيغ لما حال بينه وبين الاحتفاء بها حائل، ولما منعه من دراستها وإدراجها في السياق ذاته مانع.
 
الديوان الفلسطيني
 
على أن سعدي يوسف الذي أثار الكثير من ردود الفعل الغضبى بسبب مواقفه السياسية والإيديولوجية المتذبذبة يعد بمعنى من المعاني شاعرا فلسطينيا بقدر ما هو عراقي. فهو لا يعترفُ وفق ما نظن بالتصنيف القطري للشاعر ولشعره سواء أكان هذا الشاعر من العراق أو من غير العراق. والصحيح الذي يؤسف له أن نجد بيننا من يغرم غراما شديدا بشاعر أو كاتب بسبب لا علاقة له بشعره، وإنما لأنه أردني، أو سعودي، أو سوري، وهؤلاء بطبيعة الحال لا يتعلمون درسا من الآخرين الذين يعدون طاغور مثلا أديبا إنجليزيا مع أنه هندي لكونه يكتب بالإنجليزية. وقد سمعت من بعض الأصدقاء أن مؤلفا أردنيا صنف كتابا عن شاعرين معاصرين أحدهما في مستوى نزار قباني شهرة والثاني مغمور لا يسمع به أحد خارج حدود المملكة، فقدمه على الآخر في العنوان، وكانت حجته في التقديم- والعهدة في ذلك على الرواي- كونه أردنيا وليس من هوية أخرى. وفي العام 2010 عدما كنت في الرياض كتبت دراسة عن قصيدة للعلاق، وبعثتُ بها لأحمد زين المحرر الأدبي لصحيفة الحياة اللندنية– وهو لبناني- فجاءني منه رد غريب، ومؤسف، يقول فيه على الرغم من جودة القصيدة، والدراسة، إلا أن الأولوية في النشر للأدب السعودي. وقد كان سعدي يوسف قد انضمّ ما بين 1976 و1993 لطائفة من الشعراء المنخرطين عضويا لا لفظيا في المقاومة الفلسطينية من لبنان. وعاصر الأحداث الكثيرة التي تعرضت لها بما في ذلك الحروب الأهلية، والاجتياح الصهيوني، وما تلا ذلك من حرب المخيمات.. ومن هذه التجارب طلع علينا بالكثير من الشعر المقاوم ، وقد نشر هذه الأشعار للدلالة على قيمتها الأدبية والثورية، وما فيها من أجواء متجانسة في مجموعة خاصة أطلق عليها عنوان « الديوان الفلسطيني « وغني عن القول أن فيه قصائد جمة كتبت في أثناء المعارك، وفي أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت.. والحرب الدموية في مواجهة التكتلات الانعزالية بقيادة الكتائب. وما أعقب بعض هاتيك الحروب من مذابح ومجازر كالذي جرى في مخيم تل الزعتر، وفي مخيمي صبرا وشاتيلا. وبعض هذه القصائد تتضمن إشارات لشعراء آخرين تضافروا وتعاضدوا في تلك الأحداث، يقول في واحدة من تلك القصائد مشيرا لمعين بسيسو الذي فارق الحياة في العام 1984 مذكرا بأدائهما في المقاومة:
 
لن تكون سماءك بيروتُ
 
أنت الذي ما أقمت بها غير بوابة للخطر
 
موقعا واجه البحر
 
معترضا كالعبوّة
 
منزلا من حجر
 
كنت ترمي النعومة من شاهق فيه
 
حتى تهشمها فتلم الحصى
 
وتعيد النشيد إلى قعقعات الحجر
 
هو سعدي، وهذه علاقتي بشعره، فهي علاقة عابرة، ومع ذلك تستحق أن تذكر. رحمه الله رحمة واسعه، ولترقد روحه بسلام.