Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    10-Jul-2014

(مرافعة الشيطان) لعبد الناصر رزق: الرفض في أعمق تشظياته
الراي - قراءة - محمد جميل خضر
 
كأنما يقول لنا: إن كان الأمر يستحق سرد حكاية كاملة متماسكة العناصر، متدفقة المنطق، بمدخل وبؤرة وقفلة، فسأفعل كأحسن ما يكون الأمر، وإلا فسأشتتكم وأشت معكم.
نعم الروائي عبد الناصر رزق، يرى في روايته الثالثة «مرافعة الشيطان» الصادرة قبل أيام عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان، أن الأمر لا يستحق دائماً، لينشئ عبر شخصية موهومة حقيقية، مريضة عبقرية، مضطربة مرة وتعرف ما تريد مرات، مرافعته التاريخية حول رفضه لكل شيء، ليس كل شيء تماماً، ولكن غالباً، على الأرجح، عموماً، تقريباً، لعله، أقول، لعله: كل شيء.
الرفض دلالة أولى، بعيداً عن إيقاع الزمن، فالزمن يتوقف بفعل فاعل منذ الصفحة الثانية في رواية لم يتعد عدد صفحاتها في المجمل العام، وبقطع متوسط 180 صفحة مشتتة الوجهات، مركبة المستويات النفسية/ الدلالية/ الواقعية/ التجريدية/ العرفانية/ التمردية/ الذهنية/ الجمالية. إذاً تحمل الصفحة الثانية، في عودة ضرورية لها، إعلاناً غير بريء على الإطلاق، عن توقف الزمن، وتحييده كشاهد وكعنصر أو بطل أو أي توصيف من توصيفات نقاد الواقعية بمختلف تجلياتها واختلاف القوم حولها: الواقعية التقليدية، الاشتراكية، الواقعية الجديدة، الواقعية السحرية أو كما في تخريجة أخرى واقعية أمريكا اللاتينية: «فيما كانت الساعة التي أمل بتحريكها، ولو بدافع من قواه الذهنية، عابسة بلا حراك عند الثامنة وعشرين دقيقة». وطالما أمر الكاتب هنا بإيقافها، فلا يعود مهماً هنا هل هي الثامنة وعشرون دقيقة صباحاً، أم مساء؟ المهم أن الزمن الخارجي توقف لصالح الزمن الداخلي، المشدود بحبال تيار الوعي، المرتهن لرعونة سامي الحربي، أو خالد الوسيم، أو سامي الوسيم أو سامي المجرد أو خالد الملتبس. فاللعبة الحقيقية في «مرافعة الشيطان» التي أتقن عبد الناصر رزق حبك خيوطها وخطوطها بأناةِ رَفْضٍ باطنيٍّ عميق، وبأصابع رسام مثابر التحديق، هي لعبة الزمن المنفلت من عقال الوقت، الممسوك بخيطان خلبية لا تكاد ترى. طبعاً هذا لا يمنع أن يلتقط من يريد أن يلتقط روح سبعينيات القرن الماضي، وثمانينياته وحتى مطالع تسعينياته، داخل كثير من مفاصل السرد والري والإبحار فوق أمواج بحر متلاطم داكن عصي على الإمساك.. بحر من الأسئلة الضائعة إجاباتها بين مطرقة الواقع، وسنديان الذات المتعالقة بأكثر ما يمكن أن يكونه الاضطراب مع هذا الواقع.. بحر من الإحجام والإقدام.. بحر من النبوغ الغارق في محيط من التهميش والضياع والشتات، ببعديه: الموضوعي الصريح عبر تهجير شعب وطرده من أرضه ليصبح طريح مخيمات اللجوء والعار المدموغ مثل وصمة فوق جبين إنسانية متهالكة، منهارة قيمها جميعها كما يرى بطلنا الأثيري المتعِب والمتعَب.
ولكن، وعندما يرى رزق أن هناك ما يستحق، فإنه يفرد ست صفحات كاملات (من 156 إلى 162) سارداً أدق تفاصيل اللحظة المفصلية التاريخية في حياة سامي/ خالد، انتقالاً من البراءة الأولى إلى الاكتشاف الموجع للخطيئة (الشهوة/ الجنس/ مرافئ الجسد) في أكثر تجليات ذلك تعقيداً والتباساً وخوفاً وخجلاً واضطراباً وتداخل حسابات وتضارب مشاعر وتسابق أولويات. ينتصر الجسد أخيراً على مختلف ما سواه، وتتدفق مياه الحياة الثاوية داخل عروقه باندفاع مجنون يغمر الجسد النائم للمرأة/ الأم/ الجارة/ الحضن التائه بين أن يكون حضن روح أم حضن جسد. حضن أرض أم حضن سماء. حضناً للذات نفسها، عندما يتعلق الأمر بأرملة في حارة شعبية، شارع في مخيم، زقاق ضيق متورم بمختلف وجوه الكبت والحاجة والحسرات، أم حضناً للآخر، الولد الضائع من هويته، المستلب لأقدار مترامية الأطراف من القسوة وانفلات حدود الطاقة، والرغبة المشتهاة أن يتحول الكون كله إلى فضاء لا ينتهي من أجل فراشات لا تموت، ولا يفتنها الضوء.
على عكس ما قد يراه آخرون، فأنا شخصياً أرى، أن مناظرات الطبيب مع المريض المفترض، من أهم محاور الرواية، لجهة رفع مستوى الرؤية فيها، وتعميق غائيتها، ورفد أبعادها ووجهاتها وروحها بالفكر والمعرفة والأسئلة الكبرى.
لست هنا بوارد إعادة سرد الرواية، فهي بين أيدي من يود أن تكون بين يديه، ولست أيضاً وأيضاً، بوارد استعرض عضلاتي بالمرور على أسماء نقاد عرب وأجانب، والمرور على تجارب روائية أخرى قد تكون «مرافعة الشيطان» تقاطعت معها عند تفصيلة الجانب النفسي، فأستعرض أسماء ليست في صلب وجهتي المتعلقة بإبحار صادق أمين داخل عالم مبهر ومدهش ومختلف منحتني رواية رزق الثالثة التجديف فيه، بعد «أشباح الجياد» الصادرة بطبعتين، الأولى العام 2001 عن دار الكندي والثانية عام 2003 عن دار اليازوري، وعن دار اليازوري أيضاً وفي العام نفسه 2003 صدرت «ليلة عيد الأضحى».
وعندما أقول التجديف، فلأن هذه التهمة في مقام آخر، هي واحدة من مآثر الرواية وصاحبها، التجديف يعني الشك، يعني اللايقين، يعني السؤال المتبوع بأخيه، يعني الانحياز لغرسٍ شيطانيٍّ يسمى الناس، الشعب، الجمهور، يعني الهامش المبتلى بمتن ضاغط صارم متجهم مطلق.
«مرافعة الشيطان» ليست مجرد رقم ثالث في مسيرة رزق الحاصل على بكالوريوس فلسفة وعلم نفس من جامعة بيروت العربية، إنها نقلة نوعية على صعيدي المعنى والمبنى، وهي رواية جديرة بالقراءة والتقليب وتعدد مستويات التلقي وإخصاب أفق التوقع. وهي بحق مرافعة تاريخية من أجل عالم أفضل لنا ولهم ولأطفال لم يولدوا بعد.