Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    22-Mar-2020

وتريات غجرية.. أسارير حلم شجاع

 الدستور-راشد عيسى

 
1 - الأدب العظيم إشكالي بالضرورة، من حيث معمارية النص ومن حيث مجرات رؤاه معاً، ذلك لأن العبقرية الخلاّقة منذورة أيضاً للانحياز الابتكاري بحتمية تلقائية.
 
2 - أهداني الصديق إلياس فركوح عملين أدبيين للأديبة سميحة المصري هما: «عشرون سيرة ذاتية للقهوة» صادر عام 2015م، و»صلاة عاشرة قبل التجلي الأخير» صادر عام 2016م، وأخبرني أن سميحة راغبة في أن أكتب لمخطوطها الثالث [وتريات غجرية] مقدّمة ما.
 
ولأني أتهيب من كتابة المقدمات خشية الانزلاق الدبلوماسي في رفاهية المجاملة أو مجانية الرأي الظالم إنْ مَدْحا وإنْ قدْحا، تباطأت في الرد إلى أن أخبرني أنه كتب مقدمة الكتاب الثاني [صلاة عاشرة قبل التجلّي الأخير] فارحجَنْ بالي؛ لأن قامة إلياس الإبداعية لا تتعالق إلا بنفائس الأدب. فوعدته أن أرى ما أرى، لأني لم أقرأ لسميحة أي نص قبل ذلك.
 
وها أنا أرى ما أرى... قرأت الكتابين على مدى ليلتين وشهقة. وللحق أصبتُ بعذاب عذب، أشبه بغبطة طفل فقير دخل مصنعاً للحلوى المفضلة لديه. وجدتني أمام نصوص أدبية نافرة من التجنيس والتأطير الشكلاني التقليدي، وحاردة من قصيدة النثر أو التفعيلة. نصوص ذات هوية أدبية خاصة ففيها من ضغائن الشعرية، ومكائد الميكانيزم السردي، وفخاخ التخاطر، والتماعات الفكر الشعوري، والأباريز الثقافية ما يجعل القارئ الفائق لاهياً عن أي مقترح تصنيفي، لينسرب انسراب الذاهل في مطاوي المعاني المراوغة وفي مدارج اللغة الفاتنة.
 
في الكتاب الأول [سيرة ذاتية للقهوة] عروج مقدّس إلى المذاقات العرفانية للقهوة بصفتها ربة المزاج الروحاني للعربي بخاصة وللإنسان في أي بيئة بعامة، وبصفة القهوة أيضاً شريكاً رئيساً في استفزاز كهانة الشاعر وتأهيل مخياله لمزاولة صبابة الانفعال بلذة فتاكة. إلى هنا وأحيل القارئ إلى ما كتبه الزميل وارد السالم في مقدمة الكتاب.
 
في الكتاب الثاني [ صلاة عاشرة قبل التجلي الأخير ] ثمة فيوض قلبانية متناغمة متنافذة مع رذاذ الثيوصوفية وتلامحات الأليغورية القديمة، غير أنها غير مقلّدة لفضاءات التجليات التصوفية التقليدية، إنما هي انبعاث جديد متفرد منبجس من مهجة كونية قدّيسة جارحة الشفافية تمتلكها سميحة المصري، لتهندس مراق الأبد على مراقها، ولتدل البشر الطيبين كيف يستمتعون بلذائذ الآلام وبهجة طرح سؤال الوجود بيأس ممتع أشبه بمن ركب الجسر ليقطع النهر، فتوقف النهر عن الجريان وظل الجسر. إلى هنا وأحيل المتلقي الكريم إلى مقدمة إلياس للكتاب.
 
3 - فضاء المرائي:
 
تصدر مرائي سميحة – فيما أتحزّى – عن نفْس نقية باذخة مترامية الآمال، لكأنها نفس رسولة جديدة بعثتها ربّة الكلمة إلى الناس الحائرين المنجدلين بكذبة الدنيا، والتائهين عن ظلالهم، والهاربين من قسوة المعرفة، والمكمومين بأحزانهم العالية. فالأدب العظيم رسول محبة، وحداسٌ فقيه بمنابت الجمال، وهو سادن البصيرة وعراف الآفاق الضّالّة.
 
في هذه النصوص رسالة جمالية سرانية تتوسل بالفاعلية الشعرية النشطة وبأقنعة المجاز النبيه إلى اقتراح صيغ شعورية تليق بمكابدات الكائن أمام سلطان الحرية الإنسانية المنشودة، فهي كتابة مربوزة بشغف التطهير (Catharsis).
 
فالقهوة وسيط مزاجيّ بليغ، واللمع الصوفية طريق إلى الطمأنينة العلوانية، ووتريات غجرية مرايا ذكية لمشهدية الحياة الحقيقية لدى الغجر الذين يمثلون المعنى الأرقى لمفهوم الحب، فهم أقرب البشر إلى أخلاق البراري وسجايا الحرية ورفهنية البال.
 
فإذا كان الكون كله حالة شعرية، فإن القهوة واللمعة الصوفية والوتر الغجري ثلاث قصائد روحانية ملحمية أو ثلاث سفريات معاصرة في عوالم الحنين الغابر.
 
بالوتريات الغجرية يكتمل ثالوث الحرية، ويتسامى واقع حياة الغجر متفلتاً من طبائع الحياة المدنية. ومن العواطف التجارية ومن خبائث العلاقات المغرضة، في نزوع مشعشع نحو الفطرانية وعبقرية البساطة ونحو فقه الرحيل بين أنفاس الوهاد وألفة الأنهار. الغجر لا يريدون من ربابنة المدن وأسراء الحضارة المزيفة سوى أن يُتركوا بحالهم قانعين بعلاقتهم البدائية البريئة مع مقاصد الطبيعة. الغجر كهنة الحب وأباطرة السذاجة السعيدة.
 
على أن ما يوّحد أواصر الثالوث الأدبي في الأعمال الثلاثة هو البث الوجداني المنفوح بالإيمان بالرب الواحد الذي إليه توكل المآلات وبه تستعصم القلوب. فالربانية عقيدة شاملة تتقادح سيماءاتها في ثنايا البث الاستعاري في جميع النصوص . فالانسان عاجز عن الاستدلال إلى مكامن الراحة النفسية وإلى مشارف الهدأة الوجودية المأمولة، وليس أمامه إلا التعلق بأسباب الربانية المحايدة.
 
«وباسمك يا ربّ الغجر واللاغجر نريد نصف سماء
 
ولتقبل منا نصف صلاة تطرد عنا الأحزان ..
 
يقول الغجري للغربية ..
 
آه يا حبيبتي لا تأخذي الله معك
 
اتركي شيئاً منه هنا ... «.
 
4 - في مفاتن الأسلوب:
 
لعلي من المؤمنين جداً بان الأدب المتميز إنما هو الذي يختار للإجابة عن سؤال (ماذا) أساليب شجاعة من فعاليات [كيف]. فالأدب الرفيع أسلوب رفيع بالضرورة. وسميحة في نصوصها تعتمد تقانة فريدة في بناء النص، بحيث يبدو النص كتاباً مرسلاً من أفق علائي، وما كان من الكاتبة إلا أن يسَّرت وصولة بين أيدينا، تماماً كأنه مروية من مدوّنات سماوية منسية تم اكتشافها وبعثها من جديد على نحو قولها في المستهل:
 
«وقد جاء في أغنية الغجر السادسة عشرة بعد المئة
 
طوبي للغجر ، يراقصون القوانين الحمقاء التي تُسَنُّ
 
لكي تَخرق ولا يحتفلون إلا مع آلهتم «.
 
فالكاتبة تبدو محايدة قامت بمهمة النقل الامين فحسب. وذلك لعمري أسلوب فني ذو مخاتلة جذابة.
 
تنطوي نصوص [وتريات غجرية] على منظومة من الظواهر الأسلوبية البراقة، فثمة حوارات تهرّب سميحة من خلالها أفكارها ونكهات مواقفها المعرفية على غرار حوار الغجر مع الغريبة. وغالباً ما تسند الرؤيا لصياغات لطيفة من ذهب الحكمة، أما العبارات التي تجري مجرى المأثور من الكلام، فمن مثل:
 
- أو تعلمين، مَنْ يُخذَل ببردْ.
 
- سوف أرمي الورود المجففة قبل أن يستيقظ الربيع
 
- أهل الفوق يجربون الحياة، وأهل التحت جرّبوها وخذلتهم فماتوا من السأم.
 
- البحر نصف المعرفة والنصف الثاني كل ما عداه، أما المعرفة المطلقة فهي الله.
 
هكذا تبدو هذه المقولات المصفاة تشبه نوعاً من نصوص الـ (Epigram) تلك النقوش التي كان يدوّنها الرعاة والقساوسة على حجارة المقابر أو الشواهد الحجرية البارزة في أطرف المدن، إنعاشاً لروح الميت واستقبالاً لروح الميتين القادمين. وأحسب أن الأدب المتفرد يشتمل غالباً على مثل هذه العبارات التي تسري بين المتلقين مسرى الأمثال والعبارات الخالدة.
 
ولما كان الأدب لعباً لغوياً فنياً خلاّقاً بحسب كانط، فإن سميحة مالكةٌ بامتياز الاستطاعة الواسعة لإدارة عادات اللغة وتجنينها واستفزازها بمماحكة فنية مسؤولة، تتفلت من الأنماط البائدة المستهلكة وتبتكر أبنيتها. فثمة صيرفة لغوية مثل: المدحننة من الدحنون والسَّندسة من السندس. وهناك طائفة من مظاهر الانزياح اللغوي كالاستعمال الكنائي للظروفين (فوق وتحت) أهل الفوق وهم المتنورون وأهل التحت الضعفاء البائعون. وكذلك الالتماعات السيمائية في علائم الترقيم أو في الحروف مثل: والبرد القار (س). فوضع السين بين قوسين يوحي إلى جواز استخدام حرف (ص) بدلاً من السين. كما يلمح إلى ما في حرف السين من دلالات مطوية.
 
ولعل أعمق مظهر لغوي في النصوص جميعها هو شيوع ظاهرة التناص على مختلف ألوانهبين التاريخي والديني والأسطوري. فمن أمثلة التناص القرآني قول الكاتبة [ فسلام عليك حتى مطلع الروح [محاكاة لِـ « سلام هي حتى مطلع الغجر]. ففي ذلك نصنصة أكسبت فكرة الكاتبة شخصية فنية جديدةعززت مقاصد الدلالة. ولا شك أن مثل هذا التوظيف إنما يسهم في تخصيب الفكر الشعوري ويمنح العبارة وهجاً لذيذاً إلى جانب ما تبثه النصوص من ملامح معرفية ثقافية بين فكرة وأخرى.
 
وأجدني متوقفاً كذلك عند حزمة من الصور الفنية التي تعزز البهارات الشاعرية وتؤازر نوايا العبارة، من مثل:
 
- أوطان تمشي في العراء عارية.
 
- الطائر الذي توقف على العكاز ليقضي حاجته.
 
- المطر هطلٌ من ضحك وموسيقا.
 
كما نجد تسريباً فطناً لأفكار كونية يتم تناقلها عبر الأزمنة على الرغم من اختلاف البيئات البشرية والحضارية. كفكرة لذة الزمن الحاضر التي عرفناها لدى فلسفة أبيكورس [الزمن، المرأة، الخمر] ثم امتدت إلى الفارسية عند عمر الخيام:
 
لا تشغل البال بماضي الزمان ولا باتي الغيب قبـل الآوان
 
واغنم من الحاضــر لذاته فليس من طبع الليالي الأمان
 
غدٌ بظهر الغيب واليوم لي وكم يخيب الظن فـي المقبل
 
لنعرفها كذلك في الثقافة الأوروبية (Next is Now) أو عند شكسبير:
 
‏(What›s to come is still unsure).
 
في حين تقول سميحة:
 
« ليس من بدء إلا الآن
 
فابدأوا وليس من نهاية إلا الآن
 
فاختموا ببدء الحياة أيها البحارة».
 
5 - وليس ختاماً: فإن وتريات غجرية بث لغوي مكين ذو حساسية فنية بليغة معجونة بماء شعري مقطّر وبحنكة واضحة من الفكْرنة، وهي نصوص مغموسة ببهاءات روحانية تناضل ضد جميع أشكال الاستلاب الإنساني منتصرة للجمال والحرية والتنوير بشجاعة تعبيرية جديرة باستحقاق الاحترام. وللحق أيضاً فإن مثل هذه النصوص نادرة الحدوث ولا تتأتى
 
إلا لأولي النهى أو ربَّات القلوب الشمسية. غير أني جهلت حقاً سرّ الوشيجة بين سميحة والعدد، فهو متداول في عنوانات كتبها وبعض نصوصها [عشرون سيرة، وصلاة عاشرة، ومئة وست عشرة أغنية غجرية]. كتابة تستصلح البور في أراضين الأفئدة، وتهندس للغة مشاتل وبساتين، وتؤثث للمعنى منازل توازي كهوف الأنبياء.
 
فهل رأيتُ ما رأيت؟ أم أن ابتهاجي بفذوذية النص قلعتْ أوتاد خيمتي البدوية وصارت غيمة ممطرة؟ لذا بكل اعتزاز وحبور ومسؤولية أرشحّ نصوص سميحة للمجد.