Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    11-Oct-2019

مشاهد المقاومة والهزيمة في يوميات حامية يافا

 الدستور-منى عوض الله

صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن سلسلة «ذاكرة فلسطين»، كتاب «يافا دم على حجر، حامية يافا وفعلها العسكري»، للباحث الفلسطيني بلال شلش.
جاء الكتاب في جزأين، شمل الأول دراسة تحليلية ليوميات حامية يافا خلال حرب 1947-1948، تناولت تاريخ تأسيسها وتكوين بنيتها وفعلها العسكري، ومن ثم تفككها وهزيمتها وانهيارها. أما الجزء الثاني، فضمّ وثائق يوميات الحامية التي كتبها مسؤولو الجبهات يومًا بيوم لثلاثة أشهر متتالية؛ تبدأ بيوم 3 شباط/ فبراير، وتنتهي بـ 29 نيسان/ أبريل، من عام 1948. إضافة إلى جملة من التعاميم الإدارية، والتقارير، والبيانات العامة، ووثائق الهيئات الوطنية، ملحقة بقوائم لأسماء مجاهدي الحامية وشهدائها.
يقدّم الكتاب مشاهد مقرّبة لصور المقاومة التي خاضها الفلسطينيون والعرب في دفاعهم عن مدينة يافا إبان الاحتلال الصهيوني لها في عام 1948، تختار منها هذه المقالة ثلاثة مشاهد مستخلصة من يوميات منطقة كرم التوت وتقارير مسؤوليها، متتبعة سير الحوادث وتحولاتها التي قادت إلى الهزيمة، دون أن تحمل اتهامًا مباشرًا لأحد، فالمعارك في يافا كانت قد بدأت ببون شاسع بين قوة الحامية الدفاعية وقوة اليهود الهجومية، وبضعف غير خافٍ في اللجنة العسكرية، وعجز، أو عدم جدية، لدى القيادات العربية في دعم الحامية وتسليحها.
وهذه المشاهد إذ تعكس الانحدار المستمر في بنية الحامية وأدائها، مع كل تقدّم تحرزه قوات العدو في تسليحها وتجهيزاتها، فهي أيضًا تعلّمنا درسًا تاريخيًا لو أردنا الأخذ به؛ إذ ليست الأقدار والظروف وحدها من ساهمت في تسيير الحوادث، وإنما يلزم هنا تحميل بعض القيادات مسؤوليتهم التاريخية في ظل هذه الهزيمة. وضمن هذا السياق، يصوّب الكتاب في تحليله لسير المعارك، وما سبقها أو رافقها من قرارات، خطأً تاريخيًا يتعلق بتحديد شخوص من يتحملون تلك المسؤولية، وتكفي هناالإشارة إلى الدور الذي أدّاه فوزي القاوقجي في ذلك، على سبيل المثال.
ففي نهاية عام 1947، عُيّن فوزي القاوقجي قائدًا عامًا لقوات المتطوعين، بعد أن رشحته الدول العربية لهذا المنصب. وبعد استشهاد عبد القادر الحسيني الذي كان مسؤولًا عن المنطقة الوسطى، طُلب إلى محمود الهندي أن يتسلم قيادة تلك المنطقة، لكنه رفض،فتقرر تعيين القاوقجي قائدًا لها، وصدرت فور تعيينه، بتاريخ 26 نيسان/ أبريل 1948، أوامر اللجنة العسكرية بتعجيل إرسال نجدات كافية إلى المدينة. لكن القائد الجديد لم يرسل تلك النجدات، إلا بعد بدء اليهود تنفيذ عملياتهم يوم 28 نيسان/ أبريل، بل وأتبع ذلكقرار عزل عادل نجم الدين، قائد الحامية حتى ذلك التاريخ، من منصبه، ليستبدل بهقائد النجدة الآتية حديثًا إلى المدينة، ميشيل العيسى الذي عجز عن حفظ الحامية ومنع انهيارها.
المشهد الأول:
المكان: منطقة كرم التوت، شرق مركز المدينة.
الزمان: الحادية عشرة والنصف ليلًا من يوم 12 شباط/ فبراير 1948.
يتسلل نحو 500 يهودي إلى كرم التوت، فيطوّقونها ويهاجمون المقاتلين العرب المرابطين في استحكاماتهم، ويصبّون عليهم نيران أسلحتهم. ثم بعد ساعة من الهجوم، تنفد ذخيرة المقاتلين، فيستصرخون طلبًا للنجدة، ويظلون على حالهم تلك ساعتين إضافيتين دون أن يصلهم جندي واحدمن المدينة. وأخيرًا، تنتهي المعركة بنسف منزل، وتدمير استحكام، واستشهاد ثلاثة مجاهدين وجرح اثنين منهم. (في هذه المعركة كان كل ما يملكه المقاتلون ست بنادق ومئة طلقة، أكثرها معطوب لا ينفجر).
على خلفية الحادثة، يرسل مسؤول المنطقة، كامل الشريف، تقريرًا إلى القيادة العامة يطلب إليهم إرسال ثلاثين عاملًا لقطع الأشجار، وستين مقاتلًا، وبنادق، وذخيرة، ومدفع هاون، وأكياس فارغة للاستحكامات. ويختم تقريره بقوله: «بهذه الحالة يا سعادة القائد لا يمكننا أن نقاوم طويلًا، وأستطيع أن أصرّح لسعادتكم أن المجاهدين هدّدوا بالانسحاب إذا لم يتوافر لهم السلاح الصالح».
في اليوم التالي، يرسل كامل الشريف إلى القيادة مرة أخرى، يعلمهم بفرار عدد من المقاتلين بسبب نقص الذخيرة، وعدم تأمين طعامهم أو صرف رواتبهم، حتى صار عدد المتبقين منهم اثني عشر مقاتلًا فحسب. ثم إن شكاوى ومطالبات الشريف ظلت تتكرر طوال الأيام التالية؛ يطلب خمسة عشر رجلًا، منهم ثمانية مسلحين، فترسل القيادة خمسة رجال غير مسلحين؛ يحاول إقامة الاستحكامات، لكن العمال لم يصلوا بعد؛ يكرر طلب المزيد من الذخيرة واستبدال أسلحة المقاتلين القديمة وإرسال الرجال المدربين وأكياس الرمل الفارغة، لكنه لا يحصل على شيء. يمرّ أسبوع، فيرسل إلى القائد العام مرة أخرى، ويقول في ختام تقريره: «لست أقول هذا عن يأس وفتور، وإنما يحزّ في نفسي كثيرًا أن أرى العدو يجهز نفسه يومًا بعد يوم، ونحن لا زلنا نطالب القيادة بأكياس الرمل، فتعدنا القيادة ولا تنفذ أمرًا واحدًا».
المشهد الثاني:
المكان: كرم التوت، شرق مركزالمدينة.
الزمان: الثامنة والنصف من مساء يوم 31 آذار/ مارس 1948.
يشنّ اليهود هجومًا عنيفًا على منطقة كرم التوت، فيتصدى لهم الحرس الوطني، ويوقع فيهم قتلى، دون أن يُصاب من المقاتلين أحد. يستمر الاشتباك مدة ساعة ونصف، ثم يخفّ الضرب ويهدأ، ليُشنّ هجوم ثانٍ أشد؛ يقصف اليهود بالمدافع، ليرد عليهم المقاتلون العرب بالبنادق؛ «فتصوّر، مدفع يدفع القذيفة تهزّ الأرض هزًا، وتردّ أنت عليه بفشكة، ثم لا تريد أن تكون أضعف من العدو! فنرجو منكم أن تدبروا لنا مدفعًا حتى نصليهم نارًا».
في اليوم التالي، وعلى خلفية الحادثة، يكتب المفتش العام لحامية يافا، الشيخ حسن حسونة، إلى آمر الحامية تقريرًا يفصّل فيه تطوّر أسلحة العدو، وما أُدخل عليها من تحسينات؛ ثلاث كبسولات صارت تُثبّت على القذيفة بدلًا من كبسولتين، والمواد المستخدمة فيها صارت أشد انفجارًا. ويطلب في تقريره الإسراع في السيطرة على الموقف، وزيادة التحصينات الأرضية بحفر الخنادق، وبناء القلاع، وتوفير المدافع. ويقول ختامًا: «أكتب هذا وموعد جلاء الإنكليز الذين يقفون بعض المرات حائلًا بيينا وبين عدونا بات قريبًا، وأرجو ألا نعتمد على الزمن للمحافظة على يافا، فالزمن قد يكون لصالحنا وقد يكون ضدنا».
المشهد الأخير:
المكان: كرم التوت، شرق مركز المدينة.
الزمان: نهار يوم 28 نيسان/ أبريل 1948.
تنطلق فرقة من مقاتلي منطقة كرم التوت إلى تل الريش وأبو الديوك بكامل سلاحها وعتادها لنجدة المقاتلين هناك، فيساعدونهم على رد اليهود، واسترجاع استحكاماتهم التي استولوا عليها. ثم إنهملما عادوا إلى منطقتهم وجدواالعدو يطوّق رفاقهم المرابطين في الاستحكامات، فأحاطوا بهواشتبكوا معه. وحين حل الليل شنّ عليهم اليهود هجومًا عنيفًا من جميع الجهات، مطلقين عليهم «الرصاص الأخرس» و»الدمدم»، لكن المناضلين تصدّوا لهم وردوهم على أعقابهم.
في اليوم التالي، يرسل مسؤول المنطقة آخر يومياتها، وفيها أن اليهود شنّوا عليهم هجومًا بجميع أنواع الأسلحة، وكان أكثر رصاصهم المستخدم «الأخرس» و»الدمدم»، ومرة أخرى تصدى لهم المناضلون.
عند هذا التاريخ تتوقف يوميات الحامية، لكن القتال يستمر على الأرض، حيث يبدأ العدو سلسلة عمليات ضربتأحياء المدينة واحدًا تلو الآخر، ثم أخيرًاتدخل النجدات المتأخرة إلى المدينة، بقيادة ميشيل العيسى، لكنها لا تُحدث فرقًا، إذتستمر الحامية بالانهيار، وتنتهي بانسحاب بقية المقاتلين المنهكين الباحثين عن أمنهم وأمن عائلاتهم.