Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    05-Nov-2017

وراثة! - د. لانا مامكغ

الراي -  درسُ الوراثة والجينات كان من أكثر المواد العلميّة التي استوعبتُها في المدرسة ذات مرَّة، كنتُ أريدُ أن أفهم.. ففهمتُ واستوعبتُ وارتحت!

كان جدُّ العائلة الكبير قد سافرَ لإحدى الدّول الأوروبيّة للتّجارة في زمنٍ مضى، كان شابّاً طموحاً كما بدا، لكنّه خسر في مهمّته وربحَ زوجةً عادَ بها إلى الوطن مزهوّاً بحسن اختيارِه، إذ كانت حالةً مختلفةً عن نساءِ العائلة كلّها، ولا أعلمُ كيف تأقلمت وعاشت تلك السّنوات الطّويلة في بيئة وثقافة مغايرة، لكن قالوا إنَّ الحياةَ بينهما سارت بسلامٍ ومحبّةٍ وسكينة..
إلى هنا، والأمرُ عاديٌ، لكن غير العادي هو أن يقرّرَ ذلك العِرق الأوروبي أن يتسلّلَ فجأة إلينا نحن، وتحديداً إلى شقيقتي التي تصغرُني بعام، تلك التي خرجت إلى الدّنيا نسخةً عن الجدّة الشقراء ذات العيون الملوّنة والبشرة الورديّة.. في حين كنّا نحملُ جميعنُا الملامح المُعتادة!
واعتدتُ منذ الطّفولة على نظرات الدّهشة والتّعليقات المكرّرة حين يلمحُنا الآخرون معاً.. «شقيقات... معقول؟ سبحان االله» ثمَّ لتتبعُها ةنظراتُ انبهارٍ بجمالها، ونظراتُ إشفاقٍ نحوي، إذ كنّا نبدو مثلَ الصّورة الملوّنة الباهرة و «النيجاتيف»!
ودخلنا مرحلة الصّبا، فكان جلوسنا معاً في أيّ مكانٍ عام كفيلٌ بإدارة الرؤوس نحوها، في حين كنتُ أشعرُ أنّي كائنٌ خفيّ.. مجرّد ظلّ.. شيءٌ ما لا يراه أحد ولا يشعرُ بوجودِه أصلاً !
الغريب أنَّ ذلك كلَّه لم يكن ليثيرَ الغيرة َفي قلبي، ولستُ أعلمُ حتى الآن كيف حصّنتُ نفسي من الإحساسِ بالنّقص، مقابلَ بعضِ الغرور الذي أحسستُ أنّه أصابَ شقيقتي الجميلة إزاء كلّ تلك الحفاوة بها أينما اتّجهت، وحيثما حلّت!
 
وبدأ بيتنا يمتلىءُ بـ (الخاطبات).. نساءٌ متلهّفات لأن يحظين بعروس مثلها لأبنائهن، وكانت العائلة تنشغلُ بين الحين والآخر بإجراء عمليات فرزٍ دقيقة لاختيارِ الأفضلَ والأنسب والأكثرَ أهليّةً للفوز بالجائزة الكبرى.. تزوّجتْ أخيراً، ثمَّ لم يمضِ وقتٌ يُذكر حتى عادت إلينا.. فحدثَ الانفصالُ الأوّل، ثمَّ ليتبعه زواجٌ آخر، وطلاقٌ من جديد.. فبدأتُ أرصدُ الانكسارَ الذي أصابَ روحها تدريجيّاً لتقرّر أخيراً التّفرغ لدراستها العليا بروحٍ مطفأة، وبإحساسٍ بالمرارة تجاه رجالِ الأرضِ قاطبةً!
 
أؤمن بالقسمة والنّصيب، لكن ما يُؤلمني هو تلك الثقافة العجيبة التي ما زالت ترزحُ في عقولنا، فقد ورثت هي ملامحَها دونَ أن يكونَ لها ذنبٌ في ذلك، لكن من يبقى محتفظاً بموقفه من الجميلات هو الذي يرتكبُ الذنب كلّه.. لم يُشغل أيُّ ممّن بُهروا بها نفسَه بقراءة تلك المخلوقة البريئة من الدّاخل، كان همُّهم امتلاكَها والتّباهي بها، فكانت الكارثة التي شرخت روحَها وملأتها بالخيبة! والخطيئةُ الأخرى كانت تجاهي، فما سمعتُ قطّ كلمةَ إطراءٍ من أيّ كان، وكأنّي أرتكبتُ جريمةً ما حين خرجتُ إلى الحياة بملامحَ عادّية..
 
عزائي الوحيد هو أنّي بقيتُ متصالحةً مع نفسي، وبقيتُ على محبّتي لشقيقتي المسكينة، وإن كنتُ ما زلتُ أحملُ نقمةً ما على تلك الجينات الوراثيّة التي أربكت حياتَها.. وكادت تحوّلُني إلى إنسانةٍ معقدّة مليئة بالكراهيّة لذاتِها وللعالم!