Friday 29th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    24-Aug-2017

..هو العشق - عبدالهادي راجي المجالي
 
الراي - ذات يوم سألني أحمد سلامة, قال لي: هل تملك تعريفا محددا للعشق.. سأجيبك يا أحمد.. سأجيبك.
 
الأردن وعيون أمي هذا هو العشق فقط, وما دون ذلك مجرد هبات من الشوق اعتقدنا أنها عشق لكنها غير ذلك.. سأعطيك الدليل على كلامي.
 
زمان.. حين كانت أمي تغادر المستشفى في إجازة كنت اذهب بها للكرك, ونمر من الطريق الصحراوي ولا بد من الجلوس في استراحة على هذا الطريق المتعب لشرب الشاي.. وللوضوء والصلاة, وتداهمني بسؤال في كل مرة:- ( يا ميمتي وين القبلة) فأدلها فورا وأفرد سجادة الصلاة بخط هندسي متجه للجنوب.. وحين أعياها المرض صرت اضع كرسيا كي تجلس عليه, وأنزل للقدمين.. هل رأيت رجلا يرتوي من اقدام أمه؟ أنا يا رفيق ارتويت عشقا ما بعده عشق.. وأخلع لها الحذاء, ثم أضع سجادة الصلاة اسفل القدمين وأتركها تصلي..
 
كانت تحب أن تصلي أحيانا في الخلاء وعلى جانب الطريق, وحين نتأخر عن الوصول للقطرانه في الوقت المحدد, أتذكر.. ما يشبه الهضبة الصغيرة, قبل (سواقة).. فقد كنت أركن السيارة هناك.. ثم أخرج سجادة الصلاة وأفردها لها, باتجاه القبلة وأتركها تصلي.. لم تكن تقوى على السجود.. فالركوع كان يكفي كون المرض فتك بالعظام أيضا.. ومع ذلك كنت ألمح التراب يصعد للجبين الأغر.. كأن الأرض تتخفف من ثقلها حين تسجد عليها, فهي أم صبرت وأحبت الحياة والأولاد والأحفاد وكان الرضى وطنها..
 
لا أعرف لماذا كانت تحب أن تصلي على تلك الهضبة الصغيرة قبل منطقة سواقة.. وكانت تجلس هناك لبرهة من الوقت, وأسكب لها من دلة القهوة.. فنجانا تشربه وتتأمل المدى قليلا.. وتردد جملة واحدة: (الجو زين يمه براد براد).. ثم نغادر.
 
منذ عام وأنا حين أعود للكرك أذهب من طريق الموجب, فمن ضمن الترميمات التي أجرتها وزارة الأشغال على الطريق: قام أحد المهندسين على ما يبدو بجرف تلك الهضبة الصغيرة.. لا بل إزالتها تماما, وكانت تسليني, فبعد موت أمي كنت كلما عدت صوب الجنوب أقف قليلا عند تلك الهضبة.. وأشم الرمل الذي داسته.. وأريج ذاك التبتل والرضى, وصلاتها التي قامت على تراب كل ذرة فيه.. أخلصنا لها وكنا أوفياء أكثر من العشاق.. كانت تشدني تلك الهضبة الصغيرة, وأرتاح حين أقف عندها واذرف دمعة على المدى وليس على الخد.. وتأسرني ذكريات الدعاء والشوق.
 
في هذا البلد, نحن الذين أنتجنا العشق فقط, وعلمنا التراب أيضا أن يكون عاشقا.. نحن الذين نتذكر الأماكن كلها ونخلص لها... كان الأصل: أن أعشق سمية أو ليلى أو هناء أو خولة.. لكني عشقت هضبة صغيرة على الطريق الصحراوي أقامت أمي عليها صلاتها, والتراب كنت كلما مررت من هناك.. يستعيد معي الحزن ويبكي.. هل رأيت ترابا يبكي يا رفيق غير تراب الجنوب؟ أقسم أنه كان يبكي ويتذكر معي تلك الايام وبقايا القهوة الصهباء التي انسكبت عليه..
 
وفي النهاية جاء متعهد ما.. ربما كان مهندسا, ربما كان عاملأ, ربما (سائق).. وقرر جرف الهضبة الصغيرة تلك.. لم يكن يعرف أنه اغتال غرامي..
 
وها أنا يا أمي كلما عدت للجنوب أمر على الطرق.. وتسألني الطرقات ويسألني التراب كل مرة:- (وين القبلة يا ميمتي).. والتراب يحن والأماكن تحن.. اي وطن هذا الذي حتى ترابه ما زال وفيا لأقدام أمهاتنا؟.. كيف لا نعشقه ولا نموت عشقا في تفاصيله..
 
هل عرفت معنى العشق يا أحمد؟!