Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    21-Jun-2019

إيقاع السرد والحوار في الشعر الأردني المعاصر..

 الدستور-د.  محمد عبد الله القواسمة

مع أن السرد والحوار من المكوّنات الرئيسيّة في الفن القصصي غير أنّهما يَظهران كثيرًا في الشعر، فقد استهوى هذين العنصرين الشعراءُ منذ امرئ القيس حتّى شعراء الحداثة وما بعد الحداثة، فاستخدموهما في بنيات قصائدهم الفنيّة والتشكيليّة والفكريّة. ربما استقرَّ في لاوعيهم بأنّ «القصيدةَ لا تعثَرُ على شكلها الأمثلِ إلّا بالسرد»
في العَقدين الأخيرين بدت هذه الظاهرة، ظاهرةُ استخدام السرد والحوار لافتةً للانتباه في الشعر العربي عامة والشعر في الأردن خاصة. ربما يعود هذا إلى ما حدث من تطور هائل في التكنولوجيا ووسائل الاتصال، إذ فَتَح هذا التطورُ المجالَ واسعًا أمام الناس لتبادل الأخبارِ والحكايات والأحاديثِ التي تقوم على السرد البسيط والواضح؛ فاندفعُ الشعراءُ بتأثير هذه البيئة سريعةِ التغير أو السائلة على حدّ تعبير باومان عالمِ الاجتماع البولندي إلى الاهتمام الشديد بالسرد والحوار. وربما كان لتقدُّم الرواية على غيرها من الأجناس الأدبية الدورُ الكبيرُ في هذا الاهتمام؛ والرواية كما هو معروف من أعظمِ الفنون السردية، وقد تسمى هذا العصرُ عصرَ الرواية. وإذا كانت الروايةُ قد استخدمت الشعرَ وتأثرت به فإنّ الشعرَ بدوره تأثّر بها، واستفاد في بنائه من عناصرها وبخاصة السردُ والحوار.
في هذا المقال نعاينُ ظاهرةَ إيقاع السرد والحوار في الشعر الأردني المعاصر كما تجلَّت في ثلاثِ مجموعات شعريّة، هي: «امرأة حجرية» لمهدي نصير، و»حضن الأفول» لسلطان الزغول، و»أحزان الفصول الأربعة» لنضال القاسم. والشعراء الثلاثة محدثون، وهم الذين تنادَوْا لتأسيس حركة نيسان الشعرية، وأعلنوا بيانها الأول في شهر أيلول من عام 2017م. لقد وقع اختيارُنا على هذه المجموعات؛ لأنها الثمرةُ الأولى التي قدَّمتها حركةُ نيسان عام 2019م، حيث صدرت جميعُها عن دار هبة بمدينة إربد، وعلى غلاف كل مجموعة منها مقتطفاتٌ من بيان الحركة، وما قيل عنها في وسائل الإعلام المختلفة، وهي كما أعلم المرة الأولى على الساحة الأردنية التي تُصدر فيها حركةٌ أو جماعةٌ مجموعاتٍ شعريّةً تحمل شعارَها، وتُقدِّم فيها نموذجَها الشعريَّ عمليًّا. ومن أسباب الاختيار أيضًا مواكبتي نشأةَ الحركة، وعَلاقتي الحميمةُ بأقطابها.
لقد تجلّى استخدامُ السرد والحوار في المجموعات السابقة كلِّها. وقد اخترنا لبيان هذا الاستخدامَ قصيدةً من كل مجموعة بدأت بدايةً سردية، واتضح فيها الأسلوبُ الحكائي، وانتظمَ فيها السردُ والحوار في وحداتٍ متواليةٍ ومتفاوتة في حركتها الإيقاعية. القصيدة الأولى «نبيذ متأخر» من مجموعة الشاعر مهدي نصير، والثانية قصيدة «الجدار» من مجموعة الشاعر سلطان الزغول، والثالثة قصيدة «ميدوري» من مجموعة نضال القاسم.
في قصيدة «نبيذ متأخر» تستحضرُ الذاتُ الشاعرة، فيما يشبهُ الحُلْم، لحظةَ الفراق، فراقِ تلك المرأةِ التي يَهدي إليها الشاعرُ قصيدتَه، ويبدأ السردُ بجملة سردية:» كنت أريد أن أراكِ في الصباح» وهي تُحيل إلى الماضي باستخدام ضميريْ المتكلم والمخاطَب. ويتكرّر في القصيدة فعلُ «كان» كثيرًا، وبتناوبُ الحوار بين الشخصيتين: المتكلمِ والمخاطبة، وتبدو علامةُ الشرطة(-) بدلًا من التكرار الممل لفعل القول. 
- في ذلك الصباحِ جئتِ
كنتِ غاضبة 
وألقيتِ عليَّ الطينَ والشتاء
ثم مضيتِ
- كنتُ خائفةً
- وكنتُ يا صغيرتي كسروةٍ مذعورة
ومع هذا الفراق الطويل فإنّ الحبَّ يبقى راسخًا في القلبين، وبخاصة في قلبِ تلك الفتاةِ التي تحتفظ لحبيبها بزجاجة نبيذ، ويبدو النبيذ رمزًا لأيام الهَناء بينهما، والاحتفاظُ به رمزًا للأمل باستعادة تلك الأيام. ونراها تنتظره على مقعد خشبي في مكان تصدح فيه الموسيقى كي يتناولا النبيذ معًا. ويدور الحوار بينهما:
- شربتُ من نبيذِ غيرِكِ الكثيرَ
- هل ارتويتَ؟
- كنتُ أبحثُ عن نبيذِكِ
 في النهاية ترسمُ القصيدة نهايةَ اللقاء بين الطرفين فهما لا ينتبهان في حمّى الحبِّ إلى زجاجة النبيذ فيندلقُ ما فيها. وتنتهي الحكاية؛ فلا حاجة الآن إلى النبيذ بوجود الحب وحدوث اللقاء:
كانت يداكِ تَغْرَقان فوق المقعد، فوق زجاجة النبيذ 
ثُرتِ فجأة بأناقة امرأة أُحبُّها
أخذتِ يديَّ في يديكِ
وانسكبتْ على المقعد خلفَنا
زجاجةُ النبيذ...
    نلاحظ أن حكاية الحب هذه تتبلور في استرجاع ما حدث بين العاشقين، ويَقوم الحوارُ بينهما دون مقدمات، وكأننا إزاء حوارٍ درامي مسرحي، ويبدو الإيقاعُ خافتًا من خلال توالي مشاهدِ الحوار، والأفعالِ الماضية. 
    في قصيدة «الجدار» من مجموعة «حضن دافئ» لسلطان الزغول تواجهُ الذاتُ الشاعرةُ الواقعَ كأنَه حُلْمٌ، بسردٍ يتناسبُ مع الموقف النفسي الذي تُعايشُهُ؛ فالموقفُ هو الذي يَفْرضُ على المرء أن يختارَ الأسلوبَ الذي هو «بحدِّ ذاتهِ قادرٌ على أن يُبلورَ الموقف»، ويَبرزُ الموقفُ من خلال رسمِ المكانِ الذي تنطلقُ منه انثيالاتُ لاوعيٍ الذات الشاعرة:
فوق سقف مترع بخيبات قديمة وقفتُ أتأملُ الجدار
كانت السماء تَسْوَدُّ
كانت صخورُ الجبل العاليةُ تتفتتُ
كان الجدار يتعالى
كانت روحي تنفلت إلى أرضٍ قديمة....
يَسكُنُها عُشبٌ
يُظلله شفقٌ أرجواني
تَحْضِنُه امرأةٌ خلّابة. 
 وتبدو أحلامُ اليقظة التي تستدعي المرأةَ ضروريةً للخلاص من العذابات التي يُفرزها الجدار؛ لأنه يَفصِل الذاتَ الشاعرةَ عمن تحب، ويَمنعُ حريتهما. وتبدو للمرأة، التي يرتكز عليها الشاعر في إنقاذه، صورةٌ متعاليةٌ عن النساء؛ فعيناها رغم صغرهما تطفحان بمعان كثيرة، وجلدُها ينزُّ نورًا.
كنت أندهش من أن عينيك صغيرتان
لكنْ مليئتان بكتب وقصائدَ لم تولدْ بعد
 كنت أحبُّ سيولةَ الجِلد المتدفقِ نورًا 
ما إن ألمِسُه حتى يتهادى كقط يقودُه البرد إلى ضوءِ الشمس في أواخر الشتاء. 
لكنَّ الشاعرَ يُعلن أن تلك المرأةَ التي هي نبعُ كلِّ ما هو جميلٌ في الحياة قد غابت، وفقدَ الطريقَ إليها، وأصبح ما حوله خرابًا، وتمزّقتْ روحُه، وحلّت العتمةُ محلَّ النور حتى تمنّى لو كان ورقةً تتقاذفُها الريحُ في كلِّ اتجاه.  
ليت أني كنتُ ورقةً صفراءَ على كتف الأرض
 أتصلَّبُ في الشمس.. يُدحرجُني هواءُ الخريف.. تُبعثرُني الطرق
أتفتتُ.. تحملُ الريحُ ما بقي مني نحو عتمة الماء .. أصيرُ هباء
إنه يَضيقُ بما يُحيط به من صعاب، ويبحثُ هذه المرة عمن يُنقذُه من معاناتِه فلا يجدُ أمامَه غيرَ الجدار الذي نجح في صدِّه عن الوصول إلى أبيه، وقتلِ عناة آلهةِ الحب والخصب التي كان يأمَل في مساعدتها. هكذا لا تُقابلُه غيرُ العتمة، ويغدو وطنُه بعيدًا عن الحرية، ومع ذلك فليس أمامَهُ غيرُ مواصلة البحث عن الضوء الذي يبدو العثورُ عليه مستحيلًا. 
أمامًا أمامًا أيتها الروح 
امضي نحو بصيص الضوء
لن يَطولَ الوقتُ بالجدار حتى يُغطِّيَ الفضاء
أعرفُ أنني قد رأيتُ 
لكنني لم أعرفْ
لن أعرفَ بعدُ فقدْ ملأتني الديدان!!! 
من الواضح أن قصيدة «الجدار» تُقدِّم في سرد مونودرامي فضاءً من اليأس، وقد طغى فيها الشعري على السردي، وجاء إيقاعُها متوترًا بتكرار الأفعال الماضية، وخاصة الفعلان: «كان» و»صار»، واقتصر الحوار فيها على الحوار الداخلي الذي فجّره الإحساسُ الشديُد بالألم الذي لا أمل في الخلاص منه، حتى إن الشاعر يعترف بذلك:
أرسم ضوءًا لا يأتي..
 وأرى وطنًا يهجر فجرًا 
في قصيدة «ميدوري» يقترب الشاعر نضال القاسم كثيرًا من السّرد الحكائي، فالقصيدة عبارة عن حكاية تبدأ بدايةً سرديةً بوصف المكان والزمان؛ فالمكان طائرة، والوقت ظهرًا، والشخصيتان: الذات الشاعرة، والمضيفة اليابانية، والحدث لقاء بين الشخصيتين. نقرأ:
في الطائرة
في اندلاع الظهيرة والأستار مسدلة
والضوء ينسلُّ بين النوافذ
يلوحُ ويأفَلُ
والدروب تغيبُ
تبعثرتُ لمّا رأيتكِ مشغولةً حائرة
نجد الشاعر معجبًا بصفات المضيفة الجسدية، فجلدها أرقُّ من الورد، وعيناها في صفاء الينابيع، ووجهها بهي، وجيدها ذو قُرطٍ طويل، وصوتها عذب ينساب لثغة لثغة ( أو _ ها _ يو) وتخبره بأن اسمها ميدوري، ثم يتبادلان الحديث، ويدور الحوار بينهما ببساطة ووضوح ، لنقرأ:
قلت: ليست مُصادفةً أن نلتقي هنا وأن نحبَ وأن نُغازلَ بعضَنا 
قالت: هل كنت تحلم ذات يوم نلتقي، وما بيننا ألف ليل وليل
وكيف يمكن أن نحب وأن نغازل بعضنا في الطائرة
قلت يا هذه، الحب يأتي فجأة، الحب يخترق الحدود العابرة 
قالت: كثير من الوقت عندي غدًا لتسوية الأمر بيني وبينك لو نلتقي في الصباح..
 وتسرد الفتاة المواضيع التي ستتطرق إليها مع الشاعر في لقائهما المرتقب، ستحدثه عن البنيوية والحداثة والهوية والتصحر والهولوكوست، ثم ستذكر الأماكن التي سيزورانها: برج طوكيو أو مدخل المترو أو معبد الشنتو، وتمضي في تعداد أنواع الأطعمة التي سيتناولانها في مطاعم طوكيو: الأسماك والطحالب والسلطعون. أما هو فسيحدثها عن خطيئة آدم وذئب يوسف وعصا موسى وأبي زيد الهلالي، وسيحدثها عن قريش وأبي ذر الغفاري وكليب وتميم وقضاعه والمهلهل؛ وسينقل إليها هم بلاده، سيحدثها عن الجوع والبطالة والتضخم والشقاء، سيقول لها:
وليس في بلادنا سوى مسيرات التضامن واجتماعات الطوارئ واحتفالات الجلاء
وليس في بلادنا سوى الغزاةِ والسلعِ الأجنبية والضرائب والخواء.
وتمضي الحكايةُ ويلتقيان في المساء، ولا يدومُ اللقاءُ طويلًا، وتنتهي الحكايةُ فجأة دون أن يقوما بما كانا ينويانِ فعلَه؛ ويرحلُ الشاعر في الغد عائدًا إلى وطنه. ونقرأ في نهاية القصيدة:
لا تسألوني عن وداعتها، ما ودعتُها
لكنها ابتسمتْ وقالت: سايونارا
فكأنني وكأنها أحلام
لاحظنا أن قصيدة ميدوري بنية سردية أقرب إلى حكاية نثرية، تعتمد على الحوار بين شخصية الذات الشاعرة وتلك الفتاة ميدوري. ويتناسل الكلام بلغة الحديث اليومي مع استخدام مفردات أجنبية في حضور الشعرية في بعض مواطن التشبيه والصور المألوفة.
هكذا رأينا توجهَ شعراء حركة نيسان الثلاثة إلى استخدام السرد والحوار في شعرهم استخدامًا لافتًا، وبخاصة السرد. ربما يعود هذا إلى إدراك هؤلاء الشعراء أهميةَ السرد، وفهمِهم التحوَّلاتِ الكبرى في الشعرية العربيةِ المعاصرة التي أعادت الشعرَ ــ كما ورد في بيانهم النيساني ذي الطابع الأدبي « إلى سياق السرد، إلى حاضنته التي ينمو فيها ويتنفس منها، ويغرِف من مائها، وينبُتُ في تربتها، ثم يتمرَّد عليها ليعودَ وينغرسَ في تربتها ثانيةً بطفرةٍ جديدةٍ وإيقاعاتٍ ولغةٍ نمَّاها بيديه في تربة السرد الطريَّة الشرسة الطازجة. فالشعر ينمو في اللغة اليومية المُتداولَةِ والأحداثِ الواقعية البسيطة والأجسادِ الحية التي تتحرَّكُ في فضاء الحياة وسردها ونثرها»
لقد كان في استخدام حركة نيسان السردَ والحوارَ خروجًا على النسق والانتظام في الشعر، وحقق هذا الخروج إثارةَ الانتباه واليقظةُ في مواجهة الجانبِ الحسي، وفي جعلِ العملِ الشعري أقدرَ على التعبير عما يختلجُ في الوجدان؛ فالشعر عامة يتجنب الانتظام، وإن «إيقاع الشعر العربي يجمع بين النسق والخروج عليه، ولعلها سمةٌ مشتركةٌ بين الشعر العربي وغيرِهِ من الأشعار، بل لعل لها نظائرَ في غير الشعر من الفنون» لقد ساهم السرد والحوار في بعث الحياة والحركة في شعر الشعراء الثلاثة، كما ساهما في الاقتراب من هموم الواقع السياسي والاجتماعي الذي يعايشونه. ومع ذلك فقد تفاوت الشعراء الثلاثة في استخدام السرد والحوار في مجموعاتهم؛ فرأينا اندماج السرد والحوار في بنية شعرية متماسكة حينًا، وفي بنية سردية شعرية منفلتة حينًا آخر. من هنا ربما يحق لنا القول بأن الحركة الشعرية الأردنية عامة ونيسان خاصة تحتاجان إلى أن تبلورا حراكهما الشعري في نص محدد المعالم، يوظف السرد والحوار وغيرَهما من التقنيات الفنية دون أن يغرَق في إحداها؛ ليحافظ على شعريته النقية والمتفردة.