Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    07-Feb-2020

شبابيك.. فيوض إنسانية

 الدستور-أحمد الكواملة

وأنا أقارب مجموعة القصص القصيرة جدا الموسومة (بشبابيك)، للقاص محمد مشة، أجد من المناسب أن أشير باختصار إلى نشأة هذا النمط من السرد حيث ظهرت بواكير القصة القصيرة جدا علميا اواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ويذكر ان ارنست همنجوي كتب قصة من ست كلمات قال فيها: (للبيع حذاء اطفال، لم يستعمل قط)  إلى أن حطت رحالها في منطقتنا بداية من سبعينات القرن الماضي، حيث كان للقاص محمود الريماوي تجربة في ذلك وان لم تحمل مسمى قصص قصيرة جدا، إلى أن اصدر القاص محمود شقير مجموعته القصصية (الولد الفلسطيني) عام 1977 م حيث عنون احد نصوصه  بـ (ثلاث قصص قصيرة جدا)  ثم ظهرت إرهاصات هذا النوع من السرد في بعض كتابات القاص محمد مشة بداية من عام 1983م.
وكما أثار ظهور شعر التفعيلة جدلا كبيرا في أوساط النقاد والشعراء من ثلاثينات القرن الماضي وإلى الستينات منه، وكذلك ما أثاره الشعر المنثور أو قصيدة النثر من غبار جدلي نقدي، ثم الاعتراف بهذه الأنماط الشعرية، بل تسيدها الموقف، كذلك أثير حول القصة القصيرة جدا، كثير من الجدل بين رافض ومنكر ومعجب
وأظن أن الغبار سينجلي عن اعتراف عريض بهذا النمط السردي, تم... أو على وشك. ولعل ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي من كتابات تدعي أنها تنتسب إلى القصة القصيرة جدا سيطيل أمد الجدل غير أن المآل سيفضي إلى لفظ الغثاء على كثرته وتكريس الإبداع الحقيقي على قلته.
وبالتأكيد لن يصمد في الميدان إلا ذلك الإبداع السردي الصادر من مبدعين امتلكوا جيدا ناصية القصة القصيرة.
ويمكن الحكم على تميز القصة القصيرة جدا بملاحظة علاقتها الجينية بالقصة القصيرة العادية من حيث توافر الشروط، إضافة إلى الاحتفاء بعناصر أخرى  
(التكثيف اللغوي، الشعرية، الإدهاش، المفارقة، الإيجاز الثري الموحي,  ودورالمتلقي في قراءة ما بين وما بعد السطور، إلى أخره)
إضافة إلى كل ما يميز القصة القصيرة جدا من وهج وإدهاش وانزياح لغوي ودلالي وكثافة شعرية وإيجاز ثري موح.
وبمقاربة سريعة لمجموعة شبابيك للقاص محمد مشة نلمح تلك الوشيجة القوية التي تربط قصصه القصيرة جدا بالقصة الأم حيث البداية والعقدة والنهاية والشخوص وسمات الزمكان المعمقة للمشهد إلي أخره.
 إذ يسلمنا العنوان شبابيك  إلى(حوار البصر والبصيرة، الداخل والخارج، الضوء والعتمة، الطمأنينة والتوجس، الذات والأخر، حوارية الجهل والمعرفة، الغياب والحضور والانتظار والترقب، الخ الخ)
وقد لفتت قصص شبابيك انتباهي إلى محاور منها:
1 – انسنة الأشياء وتشييء الإنسان:
برهافة واضحة، وبكلمات مقتضبة، تظهر قصة (طفلة) كيف اصبغ محمد مشة إنسانية مرهفة، على دمية تضيق بواقعها، وكيف حول إنسان إلى شيء يتمنى ما يفتقده كإنسان. حتى لو تحول إلى لعبة.
هي لعبة انسنة الأشياء, وتشيئ الإنسان، وكأنها إشارة لانعدام الرضا في هذه الدنيا التي لا تهب الإنسان ولا الأشياء كل ما تريد.
2- إيجاز ثري موح:
يمضي محمد مشة في إيجازه الثري العميق البسيط الموحي
 وهاهي قصة (حب عميق) ودون ثرثرة يضئ ذلك الحب القديم المعتق حيث قال  لها زوجها العجوز عمليا ألف مرة قبل أن يعلن لها حبه قولا، وهاهي تعلن بحمرة الخجل وهي في عمرها المتقدم (سمعتك  يا حبيبي تقولها لي ألف مرة وفي كل مرة ينتابني ارتباك وخجل أجهد في إخفائه عنك) وهاهو يقول لها دون كلام كما كان يفعل دائما وهو يساعدها  على الوقوف ليقيما الصلاة رغم انه يستعين بعكازه كي يقف وكأنهما يصلان بدايات الحياة وبداية ما بعدها، كأنهما يقولان (الحب والحب وحدة سبيلك إلى الله)
3 – خدعة موت المؤلف:
مذ أعلن الفرنسي رولان بارت فكرته عن موت المؤلف، انشغل كتاب الرواية والقصة والشعراء إلى حد ما في محاولة إقناع المتلقي بموت المؤلف إشارة إلى أن / البطل/ الحدث / ما هو خارج إرادة المؤلف / هو ما يتحكم بكينونة النص وتداعياته وهذه في اعتقادي خدعة قد تنطلي على البعض لكنها تتهافت  أمام من يمتلك بعض الأدوات النقدية
و أظن أن القاص محمد مشة اشتغل على هذا بنية مسبقة أو دونها
و هو يحول نصب فخاخه,  يعود ليذكرنا .. أني إنا الكاتب وأنا بطل القصة وأنا من يحرك دفة الأحداث وصولا إلى المآل الذي هندسته يداي
و لعل قصة (صحوة) تشير إلى تلك الجدلية بين المؤلف والبطل حيث يضع المؤلف ذاته في موضع بطل القصة الذي يبحث عن ذاته غير أن هندسة القصة تشي أن المؤلف هو في الواقع من يبحث عن ذاته الممزقة
4- هو.. و...هي:
قليل من قصص محمد مشة التي تخلو من إشارة إلى الأنثى تصريحا أو تلميحا
فإذا جاز أن نطلق على شاعر لقب شاعر المرأة فان محمد مشة قاص المرأة بحق
هو يهيم عشقا بها يراها أجمل الأشياء يتبعها وإن لم تلتفت إليه
ينتظرها  ولا يمل، وهو على يقين أنها لن تأتي.
و القصص كثيرة التي تشي بذلك مثل (بائعة الورد، ذات لقاء، سميحة وأنا، اعتراف، الحافلة، صوم، هروب الخ الخ)
و في المقابل يرى في الرجل الزوج ذلك المتعجرف الذي لا يرحم، مقابل الأنثى
(الزوجة) التي تستقبل ذلك المتجهم بابتسامة لا تفارقها، حتى وهي تتلقى الضربات0
و أيضا في هذه القصة يقدم بكلمات لا تتجاوز أصابع اليدين فلما دراميا يحتاج عرضه ساعات من المواقف الملودرامية الفاجعة والمرهقة معا.
5– تقنية السرد:
لعل ما يميز قصص محمد مشة تلك الهندسة البسيطة الثرية التي توصل الرسالة بكامل طاقتها وطزاجتها.
هو لا يحتاج لأكثر من سرد الراوي العادي، وكأنه يقول: ما الحاجة لتقنيات المنلوج والديالوج وغيرها من تقنيات إذا كان السرد القائم على الرواية يكفي للتواصل مع المتلقي ويترك أثرا يحدث تغيرا ايجابيا في روحه وسلوكه وهذا هو المهم
6 - بوح المكان:
إذا كان للزمان سطوة في قصص محمد مشة فإن سطوة المكان وأثره ابلغ واشد
حضورا فالمكان في قصصه بمثابة البطل الصامت الذي يقول أكثر مما يقوله بطل القصة وأكثر ما يريد المؤلف.
المكان يعكس قتامة الواقع وثقله على أرواح البشر ولعل عنوان المجموعة شبابيك يوحي بصورة من صور المكان سلبا وإيجابا، هي قصص تمور بتجليات المكان سواء كان هذا المكان واقعا أو افتراضا كما في قصص (في المطعم، اللوحة، زواج، موت دافئ، في المدرسة، الكتكوت، باب) وغيرها الكثير0
7 – قهر الواقع:
لعل قصة محمد مشة (اللوحة) تعبر ابلغ تعبير عن انقياد الإنسان واستسلامه للواقع حيث يجد الإنسان ذاته أمام خيارين أحلاهما مر...
 القبول بالقيد الداخلي والبقاء بحال القرفصاء داخل إطار الحياة (الصورة) أو التمرد ومحاولة الوقوف والارتطام بإطار الحياة المعقدة (إطار الصورة)  كما في القصة وكأنها إشارة ودعوة إلى التمرد على الإطار الخارجي في النفس المهزومة والقيد الخارجي الذي يحد من فضاء الروح وهي دعوة بأن نستمر في محاولة الوقوف (التغير) فلو ارتطم رأسنا ألف مرة في تابوهات المجتمع فإن مصيرها الانكسار والتهافت.
8 -  معجم لفظي:
إن شيوع مصطلحات لفظية نصية أو معنوية أو تيمات مكررة يشير إلى تجاذبات نفسية وفكرية عميقة تظهر أحيانا وتختفي أحيانا أخرى
موقف الإنسان من الحياة واقعا ومكانا وزمانا ومجتمعا...و بالتأكيد ليس سياقا وليد الصدفة، تلك التيمات التي كثيرا ما نلحظها في شبابيك محمد مشة
(احمر الوجنة، فنجان قوة، بصق، بصقت، النظارة السوداء، طيف، طيفها، ارتشفت، جف حلقه، ارتشف، حلم، نوم، استيقاظ، أشعل سيجارة، نفث، نفثت، دخان، ابيض، ازرق.. الخ الخ)
9 – الوطن الإنسان:
هو لم يتحدث هن الوطن بشكل مباشر، أضاء شجرة الإنسان وجعل منه ومنها أنسانا في وطن ووطنا في إنسان، وبإشارة دالة مؤثرة تشي بعض قصصه وتكشف هذا المنحى، كما في قصة (فوز) حيث الاحتفاء بالشهيد اشد من الاحتفاء بنجاح المتفوقين
و كم كانت قصة (حجر) مثالا رائعا للقصة القصيرة جدا التي تقول الكثير بألفاظ  تجعلها توقيعات ثرية
انه حجر يسيل من دم الشهادة،   إنسان في حجر،   حجر بحجم وطن
و في قصة (شهادة) أراه وكأنه يقول.. نحن لا نعشق الموت.. ولكنا نتلقاه بفرح... كي توهب لنا الحياة.
10 – تناص:
إن الملاحظ الدقيق سيكشف في قصص شبابيك للقاص محمد مشة العديد من مواضع التناص ومن ذلك قصة (قطة) وكأنه يستعير في حالة من الإيثار من القصة المأثورة عن الرجل الذي دخل الجنة في كلب...
هي دعوة للبشر لنشر روح الإيثار ولفظ عقلية الأثرة
أخيرا: ها هو القاص محمد مشة يقدم لنا شبابيك من تجربته تمثل نمط القصة القصيرة جدا خير تمثيل وكأنه يقول: من أراد أن يميز الغث من السمين فلينظر في هذه القصص، ويجعلها دليلا أو مثالا يتعرف به على القصة القصيرة جدا المشحونة بالإدهاش والثراء والتأثير والمنتمية انتماءً عضويا لفن القصة القصيرة.
هذا قليل مما باحت به مجموعة شبابيك للقاص المبدع محمد مشة وكأنها تقول.. دراسة واحدة لا تكفي لفك شيفرة الصوت والصدى، الداخل والخارج من شبابيك هذه المجموعة الثرة.
في الختام اهمس في أذن الصديق القاص محمد مشة: أقول... إن الإكثار...  يفقد الإبهارِ... في بعض الأحيان فلا تبتعد كثيرا عن نبعك الأول...(اعني القصة القصيرة العادية)... واجعل من القصة القصيرة جدا، رحلة صيد مبهجة، تقاربها بين الحين والأخر.