Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    03-Apr-2021

الوجع المقيم في رواية «مقاش» لسهام أبو عواد

 الدستور- أمل عقرباوي

قاسية هذه السيرة الروائيّة، ومؤلمة... كلماتها من بَنات معاجم العنف والغضب، إلّا أنها رقيقة التعبير والوصف، لمرحلة ناضجة من التعذيب والذلّ والقهر والموت داخل فلسطين المحتلة... وداخل سجون الاحتلال هناك.
وعلى الرغم من ذلك كلّه، فأنا أعدّها من أبلغ الروايات التي أتَت على أدب السجون، وما تلاها من معاناة.
ولعلّ هذه السيرة الروائيّة تُعدّ خطابًا حَملَ بين كلماته مفاتيح موجعة! فالوجع لفْظة اكتسحت العتبة الأولى/ العنوان «مقاش»، وهو الطبق الذي يُحمل عليه الطعام للأسرى في سجون الاحتلال، كما برزت في ثيمة الإهداء: «إلى روح أمّي الشهيدة... ومن هم على قارعة الانتظار». وجعٌ يمتدُّ من الأسْر، مرورًا بفقْد العائلة لابنها الشاب يوسف الذي ارتقى شهيدًا بعد إعدامه من مسافة صفر، وحتى ابنها عليّ الذي شارفَت ساقه على البتر... بقيت الأمّ صابرة، تعدُّ الأوجاع ولا تُحصيها، لكن الكاتبة أحصتهُ، فأمسى وجع شخصيّات الرّواية، والقارئ معًا.
هذه الأوجاع دفعت بالرواية وشخصيّاتها إلى شوارع الكفاح، وهذا ما أشار إليه الشاعر محمد خضير في كلمته على غلاف الرواية: «شكّلت الروائيّة سهام أبو عوّاد بفطرتها سيراويّة الذاكرة الفلسطينية المعطّلة، ولم تُسرف كمن سبقوها بوصف عذابات سجنٍ أو ساكنيه، ولم تنزح إلى إشكالية العشق التي أظهرت ذكورة الكثيرين ممن أثروا المكتبة العربية بروايات تحكي عن علاقتهم بالأنثى اليهودية، بل ذهبت إلى إظهار صورة مَن يعيشون الحياة بعيدًا عن صانعيها؛ الذين غيَّبهم الأسْرُ قسرًا وقهرًا، كما ذهبت عميقًا إلى رِفد الرواية بمشاهد لم تلحظها القُمْرة يومًا، فالإحساس بالقهر وأحاديث النفس هي ما يعيث بذاكرة الفلسطيني الذي وَجَد قلمًا يكتب عن موته، ولكنّه لم يجد قلمًا يكتب عن حياته. الحقيقة هنا لم تكن مجرّد خبر أدبي، بقدر ما كانت ذاكرة تليق بنسياننا».
فالأسيرة الفلسطينية حكاية تمرّد أزليّ على ظلم وقهر المحتل الغاصب ووحشيته وساديته، كما تنطوي حكايتها على مواقف كبيرة من الصبر والجلد والإيمان. وهو المتنفس الوحيد للرواية، إذ يضيق صدر القارئ بحجم الدمار الهائل الذي يخلّفه التعذيب الممنهج في نفسيّة الأسير، وسط مساحة مكانيّة ضيّقة «زنزانة انفرادية» تُحاصرها الأوبئة والأمراض المفتعلة، إلى جانب الجلاد طبعًا. ليصير القبر بمقاربة معها، أشبه بالنعيم...
تصرُّ الكاتبة التي شبّت قبل أوانها، بعد أن رفضت الرضوخ، وتمرّدت على واقعها، على سرد أحداث الواقع الذي تعيشه، مستعيدة صفحات من ذاكرة الأمّ التي روَت ما يدور بين جدران المعتقل... وقد تحدّثت الكثير من نزيلاته عن أهوال وعذابات عايشنها خلال فترة اعتقالهنَّ فيه، ومجمل هذا الألم الإنسانيّ لا يجب أن يدفعنا نحو تناسي جماليّات السرْد وروحه الفنيّة.
مقاش، سيرة روائية تمثل ذاكرة جيل الانتفاضة بأكمله، و هي رواية الذاكرة للأجيال العربيّة القابعة في مرحلة الضياع والانتظار والخيبات العارية، كما أنّها ذاكرة جيل بأكملهِ من المقاومة الفلسطينيّة التي اشتعلت في ثمانينيات القرن الفائت، فأفحمت الصهاينة وأعوانهم، بعد أن ترك الحجر بصمته فوق الصمت الدوليّ.
تعرّضت أبو عواد في روايتها ومذكّراتها إلى تلك المرحلة وما تلاها من أحداث، كما صوّرت الرواية الكثير من الواقع، فهي تكتب سيرة الأسير الفلسطينيّ، كما تكتب حياة السّجون بحلوها ومرّها، وتطرح على العين صورًا من الظلم والعذابات المختبئة خلف الخوف الإعلاميّ. واهتمت بشكل لافت إلى الأسيرات، فسردت أوجاعهنَّ الإنسانيّة، وأحلامهنَّ المبتورات، وقدّمت بسخاء قيم الوفاء والصمود التي مارسها الأسرى.
كلّ هذا تكتبه الراوية وهي تصوّر لنا ما يمكن حدوثه في الواقع، من غير أن تتخلّى عن أناقة الكتابة التي تضع الأسى في قالب لغويّ -كأنه قطعة من قصيدة هاربة من الشعر إلى حضن السرد- يدفع بالقارئ نحو الاستمرار والركض في قضم الرواية حتى غلافها الأخير، فقد اشتغلت أبو عواد على جوّانيّة سرديّة عالية، محتفظة بمساحات مدروسة لعنصريّ المناورة والمفاجأة، ولا أنكر بأنني خرجت بجرعة وطنيّة إضافيّة لوطنيتي وإنسانيتي، وقد عبّرت عن ذلك سهام أبو عواد، التي كانت حياتها طافحة بالخوف والذل والحرمان والشعور الدائم بالخيبة والانكسار، بالقول: «نعم... أخلو بنفسي وقد خلعت حذائي على عتبة روحي وولجتُ إليها، لم أصدق كيف تحيا هذه الروح وكلُّ هذهِ الكدمات والرضوض التي تملأُ سراديبها... أكوامٌ من بقايا خناجر... الكثيرُ من الصّور الممزقة تُركتْ جانبًا وقد غلّفها الغبار... بعض الثقوب الدامية التي تعتصـر كي تلتئم لكن دون جدوى... صوتٌ كالأنين يقودني نحو دهاليزَ لولبيّةٍ مكتوبٌ عليها بخط عميق (أنا الطفولة) ككهل مريضٍ تعفّنَ خاطرهُ؛ فوجدتهُ داخلها يلعقُ نفسهُ دون جدوى أيضًا... حكاياتٌ خُطّتْ على لحم جسدها مكتوب فيها لا شيء سوى بصماتٍ لأصابع تبدو وكأنّها جحافلُ جيشٍ خسرَ كلَّ معاركهِ ففرَّ من المكان، يآآآه... لم أكمل، فخرجتُ قبل أن أبتلع لساني».
اتّسمت الرّواية بفرادة اللغة، والإثارة، والفكرة، وهو ما جعلها مشوّقة للقارئ، ولعلّ هذا الثالوث الجماليّ يحيلنا -في الحقيقة- إلى جماليّات أخرى، كاستعمال مختلفِ الأساليب السرديّة من سرد ووصف وحوار، إضافة إلى إخصابها بشواهد شعريّة كقصيدة «وجه أمّي» المغنّاة للشاعر الفلسطيني الكبير محمد خضير، يقول في مطلعها: «يا وجهَ أمّي // هذه القَسَماتُ منْفىً // حين يلفظُني الحصَى // أخلو بها // لأنامَ بين ظِلالها // فهناكَ رائحةُ الخيامِ // وبعضُ ذكرى // من أغانٍ ساهرةْ.»
ولعلّنا نخلص في النّهاية إلى أنّ هذه السيرة الرّوائيّة شكّلت شهادة عن واقع الأسير الفلسطيني، كما حملت رسالة بالغة إلى السجّان... «مقاش» من أفضل ما قرأتُ، بقيت مدة زمنية، بعدها أسترجع كل شيء فيها، وأعيش معها أمل الانعتاق.
أخيرًا، هناك ما يُدمي القلب، لقد بقيت سهام أبو عواد حتى اللحظة، حاملةً لوجعها، أجدُ ذلك في نبرة صوتها الحزين، ولمعة عينيها حتى عندما تضحك.
هامش..
سهام أبو عوّاد
روائيّة وقاصّة، ناشطة اجتماعيّة وثقافيّة، عضو رابطة الكتّاب الأردنيين، عضو الاتحاد العام للكتّاب والأدباء العرب، وعضو اتحاد كتّاب آسيا وإفريقيا. كانت متحدثة رسمية باسم مؤسسة عالمية تُعنى بعائلات الشهداء الفلسطينيين، وتلقت عدَّة دورات في أماكن مختلفة مِن العالم، مثل: بوسطن، لندن، إيطاليا حول التعامل مع الصدمة النفسية (TRAUMA)، كما أنها ترأست لجنة المرأة في مؤسسة (الطريق للتنمية والديمقراطية)، وساهمت في إنشاء منظمات نسوية في فلسطين، ولها مساهمات فاعلة في تسويق منتجات هذه المؤسسات والتي تُعنى بشؤون النساء، بخاصة زوجات الشهداء والأسرى. فازت بجائزة التوثيق الإبداعي في زمن كورونا (كل مرّ سيمر) التي أطلقتها وزارة الثقافة الأردنية عام 2020، عن قصتها (أحدب عمّان). كما حازت على شهادات تقدير مِن عدة مؤسسات عالمية على دورها النضالي والإنساني البارز في العالم. صدر لها:(مقاش)، سيرة روائيّة، عن دار دجلة (ناشرون وموزعون)، عمّان، 2014، صدرت بطبعتها السابعة، إضافة إلى إصدار خاص من مكتبة الأسرة الأردنية - وزارة الثقافة الأردنية.
(أغويتُ أبي)، رواية، عن دار دجلة (ناشرون وموزعون)، عمّان، 2017، صدرت بطبعتها الثانية.
(كمائن)، توقيعات، وقصص قصيرة، عن دار دجلة (ناشرون وموزعون)، عمّان، 2016.
ولها قيد النشر: (دمى لقيطة) رواية // (فوتيك) مجموعة قصصية // (وطن أكبر منا) مسرحية للأطفال.