Thursday 25th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    21-Oct-2020

شكرا للشعر

 القدس العربي-صلاح بوسريف

شكرا للشعر، لأنه علمني أن أنصت إلى اللغة، بل أنصت إلى مائها وهي تتموج فيه، وفيه تبتكر أصواتها وإيقاعاتها، وما تحفل به من جمال وجلال. أعني أن الشعر وضعني في سياق التاريخ الجمالي للغة العربية. أرهف إحساسي بها، جعلها وهي على لساني أو في يدي سائلة، كما لو أنها ماء، في زرقته تتمرأى زرقة السماء، وضوء القمر، واختلاجات الريح والغيم والمطر.
الشعر هو اللغة وهي تتجدد، تغير قمصانها. هو الماء الذي يجعل اللغة حية لأنها اختراق واختلاق. لا يطمئن للثوابت والمسلمات، لذلك فاللغة فيه تستعيد وهجها، وتسمي. لا بما هو مسمى، بل بما لم يتسم بعد، أو بما لم يكن باديا في الأشياء من قبل، لأن عين الشاعر، من المفترض أن تكون عينا تخترق الطبيعة والأشياء، وتشعل ما كان كامنا فيها من صمت.
العربية لغة تحددت في الشعر، في الصور والتراكيب التي أحدثها فيها الشعراء، وفي التعابير التي بدت أنها خارجة عن السياق الجمالي المألوف. سأكرر الإشارة، هنا، إلى أبي تمام الذي واجه سائله عن إحدى استعاراته المبتكرة بلغة القرآن نفسه، لما ورد فيه من استعارات بعيدة مبتدعة لا سابق لها، مثل «جناح الذل من الرحمة».
النصوص الإبداعية هي نصوص وجدت لتضيف، لتخرج عن مألوف اليد واللسان، لتبتدع لغة في قلب اللغة، والشعر كان دائما، وفي كل اللغات، هو الماء الذي يضفي على اللغة الحياة ويضمن صيرورتها.
علاقتي بالشعر، إذن، هي علاقتي نفسها باللغة، بمجازاتها واستعاراتها، بثوبها الذي تتغير ألوانه وأشكاله وقياساته. فكل عمل شعري أراه، وأنا أشتغل عليه، إضافة، قيمة أخرى في لغته، في تراكيبه وصوره، في إيقاعاته، وفي طبيعة الجملة التي صارت جد مركبة مشتبكة، ذات أضلاع، وأطياف، وزوايا متعددة كثيرة، لأنني آمنت أن اللغة أو الشعر، هو ما أكتبه أنا لا غيري، رغم أن هذا الغير له حضور في ما أكتبه، لكنه حضور وفق سياق تعبيري جمالي، أنا من اشترطته واخترته، وهيأت له شروط بنائه، وغيابه في حضوري. أن أكون أنا آخري، معناه أن يكون هذا الآخر قيمة شعرية جمالية تحدث في ما أكتبه بالتوالج والتصادي، لا بالتكرار والاستعادة والاجترار.
اللغة في الشعر لا تؤمن بالفصل بين لغة لـ «النظم» ولغة لـ «النثر». هذه أساليب، فقط. إن اللغة في الشعر، هي لغة بكل ما هو متاح فيها من مفردات وتراكيب وعبارات وجمل، وفواصل ونقاط، وعلامات ترقيم، بما فيها حذف ومحو وشطب، أي باعتبارها جسما، لا أطراف جسم، وكأن عمل الجسم يحدث بطرف دون آخر! هذا ما كان بعض الشاعريين العرب كرسوه، وجعلوا في اللغة ما يليق بالشعر وما لا يليق به، أي ما هو ممجوج، نافر، شاذ، غير لائق، ولا مستساغ، مثلما عابوا على المتنبي استعماله للفظة «مستشزرات»، واعتبروها ناتئة في القصيدة، جاءت في غير موضعها، أو لا تليق بالشعر، إطلاقا، بدون أن يتساءلوا عن سبب استعمالها في البيت، وما مبررها الشعري الجمالي، في سياق شعر المتنبي من جهة، وفي سياق الشعر العربي عموما. كان المعيار والحد، هما ما يحكم النظر إلى الشعر، لا ما يحدث فيه من اقتراحات، ومن طارئ وجديد، أو إضافة، بالأحرى.
إن ثقافة الجواب ونقد الجواب، هما ما حكم علاقة الشاعريين العرب بالشعر، وهو ما انعكس على الفكر والفن، وحدّ، بالتالي من قدرة المعرفة، عندنا، على إحداث الاختراقات التي جرت في غيرها من اللغات والثقافات والمعارف.
شكرا للشعر، لأنه وضعني في قلب العاصفة، جعلني مرتجا، متموجا، لا أستقر على ماء، أتجدد، ليس في ما أكتبه، بل في ما أراه وأسمعه، وما أحيا وأوجد به أو فيه، على قلق، مثلما كان المتنبي قال، ليشير إلى الفرق بين من يطمئن لما يكتب ويقول، ومن يبقى مرتابا، لا شيء يكفي أو يقنعه.
شكرا للشعر، لأنه كان هو ولادتي الثانية، أو خلقي الشعري الذي لم يكن من طين، بل من ماء وجمر ورماد.