Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    17-Jan-2020

حارس الثلج

 الدستور-بكر السباتين

الثلوجُ تتراكمُ على الشرفاتِ.. تفترش الأرض حلتها البيضاء، وتسحلُ ندفُ الثلج على زجاج النافذة.. تلمستُ دفئَها وهي تغطي هذا القلبَ المليء بالهمومِ التي انحجبتْ عني في لحظات، واستشعرتُ بطفولتي تتقاذفُ كراتِ الثلجِ بشقاوة، تنفستُ عبقَ الطفولةِ وخرجتُ اقتفي أثري، أبحثُ عن ملاعبِ الصبا..وها هو الثلج يختلي بالأماكن ويذيب العمر في نبيذ النشوة كأنه لحظات تجترعها القلوب لتأخذنا إلى الماضي.
كانت ساعات الصباح الأولى والطرقات مكسوة بالثلج الدافئ.. وحيداً كنتُ أتجولُ كأنني طائرُ البطريق.. أتوقفُ قليلاً.. أتأملُ الغياهبَ التي تتلاشى إليها الطرقاتُ الضبابيةُ البيضاء؛ فتنبلجُ طفولتي يقودُها حارسُ الثلج.. نتعانق.. نركضُ بلا هدف.. أغرسُ رؤوسَ أناملي في طبقةِ الثلج الإسفنجية.. أكوِّرُها على قبضةِ ثلج دافئة.. أقلبُها والبهجةُ تغمرُني فأضحكُ كالصغار.. ثم أطوِّحُها على هدفٍ ما.. أعودُ أدراجي إلى البيتِ كمنِ اشتاقَ إلى أمّه، وهناك دلفتُ إلى المطبخِ ثم جهزت أدواتَ النحتِ من ملاعقٍ وسكاكينَ ومغارفَ ومواعين، كأنني ورثت شقاوة بيكاسو أو ماتيس.. ثم خرجتُ إلى الممرِّ المكسوِّ بطبقةٍ سميكةٍ من الثلج، وشرعتُ أُجلِسُ حارسَ الثلجِ على المسطبةِ متلمساً ملامحَهُ بأدواتي..
وفجأةً ايقظتني جلبةُ الأولادِ إذْ فتحوا بابَ الدارِ والدهشةُ مرسومةٌ على وجوهِهِم:
« أبي يصنع تمثالاً!!».
فابتسمتْ طفولتي في وجوهِهِم المبتهجة، واستودعتُهم حارسَ الثلجِ كيْ يزيِّنوهُ بالإكسسوارات، والضحكة البريئة تستحوذ على ملامحي.. إذْ تركتُهُم يلعبونَ مع طفولتي؛ بينما دخلتُ الدارَ ولسع البرد يخدر أطرافي.. أخلع حذائي بيد مثلجة.. أتقدم من صوبة البواري كأنني سأحتضنها.. ثم استجيب لنداء زوجتي:
«تعال إلى المطبخ.. جهزت لك النرجيلة»
عبق المعسل المختلط بنكهة قهوة حبيبتي سيّل لعابي، كنت حينها مستأنساً بضجيج الأولاد في الباحة الخلفية.. كأنني لم غادر ملاعبهم.
وأخيراً دلفتُ إلى حيثُ كانت زوجتي جالسةً لنحتسيَ فنجانَ قهوتنا الصباحي بدت لي كزهرة غرستها الطفولة على جبين حارس الثلج.
هذه المرة لم تَشْكُ من انقطاع الديزل ولا نقص المواد لتموينية أو عودة الأولاد منهكين من شدة البرد، لأنني حضرت ما يلزم لهذه اللحظات الجميلة منذ ليلة أمس، استعداداً لهذا الزائر الجميل.. إلا أنني تذكرت شيئاً فيما كانت زوجتي تعلق همومها على مشجب الطفولة وهي تتأمل ندف الثلج خلال زجاج النافذة من مكانها:
«لدي رغبة في الخروج كي ألعب مع الصغار بالثلج.. هل تصدق بأنني اشتقت لتلك الأيام ونحن نتراكض خلف كرة الثلج وهي تكبر أمامنا حتى تشيخ فتتراخى لتستقر في الأسفل بحجمها المنتفخ، فيفتتها الصغار، ثم يتقاذفون بكرات الثلج»
قلت لها متحمساً:
«سنفعل ذلك معاً.. ولكن ليس قبل أن نشوي حبات الكستناء على المدفأة»
فابتهجت وهي تتساءل:
- إذن أحضرت معك بالأمس الكستناء؟
- من أجود الأنواع..
- أدركت بأنك لن تخذل رغباتي
حدث كل ذلك والرياح تتناوح في الخارج، وتفزع الأشياء فوق البيوت، وتصدر صفيراً كأنه منبعث من قطار العمر القادم من مرابع طفولتنا..