هآرتس
الغد- رحلة حقائب المال إلى قطاع غزة، وزيادة ساعات تزويد الكهرباء التي حصل عليها سكان غزة في اعقاب رفع زيادة توفير السولار، أحدثت احتفالا شرائيا صغيرا، وكذلك عناوين سارة في نهاية الأسبوع. كما أنها بثت الروح في الوهم الذي يقول إن أيام العصيان ومسيرات العودة قرب الجدار قد انتهت. والحياة منذ الآن ستعود إلى سابق عهدها الصعب. قطر خصصت نحو 90 مليون دولار لقطاع غزة، وقامت بذلك بلي أيدي مصر وإسرائيل، اللتان تعتبرانها "دولة مؤيدة للإرهاب"، ولكن الـ 90 مليون دولار هو مبلغ بسيط ازاء مطالب الاقتصاد الغزي.
بقدر ما يتساوق مفهوم اقتصاد مع الدمار الاقتصادي الذي تغرق فيه غزة. حسب الاستعراض الذي نشره البنك الدولي في آذار الماضي فإن حوالي نصف سكان القطاع يعيشون في ظروف فقر. الدخل السنوي للفرد يبلغ 1820 دولارا (مقابل 2500 دولار في 1994)، الاستثمارات الاجنبية معدومة، وفقط المساعدات الخارجية، ومنها مساعدات الأونروا التي قلصت من قبل الادارة الأميركية، نجحت في الابقاء على الاقتصاد حي يرزق.
البطالة تقدر بأكثر من 50 في المائة، وتصل إلى معدلات أعلى في اوساط الشباب الذين يشكلون معظم السكان. إعادة إعمار غزة من الدمار الذي تعرضت له في عملية الجرف الصامد يقدر بـ 1.7 مليار دولار. هذه المعطيات المحزنة لا يمكن أن تتغير بواسطة المنحة القطرية المحدودة، فهي بحاجة إلى خطة اقتصادية شاملة تشمل ميناء، شبكة كهرباء، توفير مستمر ودائم للوقود، نظام تكرير للمياه العادمة وتوفير مياه صالحة للشرب، تطوير الاراضي الزراعية واستثمار في مصانع الانتاج.
من يرغب في تأسيس علاقات إسرائيل مع غزة على "التسوية" يجب عليه الموافقة على تحويل مواد البناء، وفتح المعابر لطالبي الاستيراد، وتشغيل عمال من غزة. المعنى السياسي لموافقة كهذه هو ليس فقط اعتراف رسمي بحكم حماس، وهو خطوة سبق لإسرائيل أن قامت بها، عندما فرضت على حماس المسؤولية عن كل ما يحدث في قطاع غزة، بل هي تحتاج إلى الغاء الحصار الذي استمر اكثر من 11 سنة، وتبني استراتيجية جديدة تجاه حماس.
بمساعدة السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، نجحت إسرائيل بصورة كاملة تقريبا في ترسيخ الانفصال بين القطاع والضفة الغربية على الصعيد السياسي والاقتصادي. رغم تجميد العملية السياسية ووقف الاتصالات بين إسرائيل ومحمود عباس كان بإمكان الرئيس الفلسطيني الاعتماد على التقاء المصالح بينه وبين إسرائيل، في كل ما يتعلق بالعلاقة مع حماس. الحكومتان اعتبرتا حماس منظمة ارهابية يجب اضعافها، وحتى اسقاطها. وقد اعتمدتا على عقوبات اقتصادية شديدة من اجل تحقيق هذا الهدف. الحصار الإسرائيلي وتجميد دفع الرواتب لنحو 40 ألف موظف كان يمكن أن يجعل حماس تتراجع وتستسلم.
إلا أنه إلى هذه المعادلة دخل الجمهور الغزي الذي جزء منه استجاب إلى أمر تجنيد حماس للخروج في مظاهرات ثابتة ومستمرة وعنيفة لنصف سنة تقريبا. وجزء من الجمهور الغزي تجند بدون قصد وشارك في النضال الشعبي. مصر التي استثمرت جل جهودها من اجل التوصل إلى مصالحة فلسطينية داخلية، ومعها تحقيق تسوية بين حماس وإسرائيل، وجدت نفسها مشاركة في ادارة مفاوضات للتوصل إلى تهدئة فورية، التي بدونها لم يكن أي احتمال لتحقيق تسوية بعيدة المدى، سواء بمصالحة أو بدونها.
لقد تبين لعباس بسرعة، أن "شراكته" مع إسرائيل في استخدام الضغط على حماس آخذة في التصدع. إسرائيل تريد الهدوء الفوري حتى لو كان ذلك على حساب انحراف جوهري عن سياسة الخنق الاقتصادي. مصر أيضا انضمت لسياسة إسرائيل الجديدة واضطرت مثلها إلى بلع الضفدع القطري، التي هي رسميا تخضع لعقوبات فرضتها عليها السعودية والبحرين واتحاد الإمارات ومصر. عباس بقي وحيدا في المعركة ضد حماس، وفقط في الاسبوع الماضي وافق بضغط من مصر على اعطاء فرصة لخطة التسوية ووقف اطلاق النار.
يبدو أن حماس تستطيع طرح التهدئة ودفع الرواتب كإنجاز سياسي لها، ولكن ليس هناك أمامها من يستثمر ضدها هذا الانجاز طالما أن عباس يتمسك بشروطه الاساسية للمصالحة الفلسطينية الداخلية. هذه الشروط تتضمن اخضاع سلاح حماس للسلطة الفلسطينية وانشاء جهاز أمن موحد، وكذلك نقل جهاز جباية الضرائب والجهاز القضائي إلى السلطة. هذه الشروط كانت مناسبة في الوقت الذي كانت فيه مصر وإسرائيل تشترطان فتح المعابر الحدودية بسيطرة السلطة الفلسطينية على هذه المعابر. في هذه الاثناء مصر تنازلت عن هذا الطلب، وإسرائيل لا تصمم عليه. الآن تبدو هذه الشروط فقط عبوة جانبية ضد المصالحة الفلسطينية الداخلية.
حماس لا تستطيع استثمار هذا الانجاز حتى ضد إسرائيل، لأنها لا تنوي اجراء مفاوضات سياسية معها، كما أن التسوية أيضا اذا تم التوقيع عليها ستعطيها بالضرورة مكانة مساوية في ميزان الردع المتبادل. حماس تستطيع التفاخر بإنجازها أمام الغزيين، ولكن لأنها ليست مرشحة في الانتخابات وقدرتها على السيطرة في غزة مرتبطة بإسرائيل ومصر، فإن الرابط الاساسي في هذه الاثناء هو الجمهور الغزي أكثر من قيادته.
في المقابل، حماس تحولت إلى ذخر استراتيجي في السياسة الإسرائيلية، وهنا ربما يكمن أحد مراكز القوة الهامة لها. ليس فقط أن الاستراتيجية الإسرائيلية تحولت إلى محور خلاف سياسي فارغ بين وزراء الحكومة، بحيث تلعب دور أيضا في الحملة الانتخابية القادمة، بل إن حماس بالسيطرة على غزة يمكنها مواصلة وترسيخ الانقسام مع السلطة، وبذلك احباط جهود تشكيل تمثيل فلسطيني موحد يستطيع التفاوض مع إسرائيل ومع الادارة الأميركية. هذه خدمة مهمة جدا لحكومة إسرائيل التي تخشى من "صفقة القرن" لترامب أو من أي عملية سياسية ستجبرها على دفع ثمن جغرافي. حسب رأي حكومة نتنياهو فإن كل تنازل لحماس يحافظ على الانقسام الفلسطيني يعتبر أمر يستحق الثمن.