Thursday 28th of March 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    10-Apr-2019

الإمبراطورية الأميركية هي الرجل المريض للقرن 21

 الغد-ديفيد كليون* – (فورين بوليسي) 2/4/2019

 
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
 
في سلسلته الكلاسيكية “المؤسسة”، يتخيل إسحق أسيموف “إمبراطورية مِجرّة”، تحكمها المدينة/ العالم المسماة “ترانتور”، والتي حافظت على السلام والازدهار في أنحاء الإمبراطورية لآلاف السنين، لكنها أصبحت الآن تتأرجح على شفا السقوط. والشخص الوحيد الذي يرى هذا الواقع بوضوح هو عالِم التاريخ النفسي هاري سيلدون، الذي قرر بعد إجراء حسابات رياضية أن الظروف الأساسية لبقاء الإمبراطورية أصبحت غير مستدامة، وأنها سوف تنهار بمرور القرون.
بينما كانت ترانتور “تصبح باطراد مركزاً إدارياً للإمبراطورية، فإنها أصبحت جائزة أكبر”، كما يقول أحد التلاميذ وهو يستوعب حسابات سيلدون. “وبينما أصبحت الخلافة في قيادة الإمبراطورية يعوزها اليقين باطراد، وأصبحت العداوات بين العائلات الكبيرة أكثر كثافة، شرعت المسؤولية الاجتماعية في التلاشي”.
نشر أسيموف هذه الكلمات في العام 1951، في ذروة القوة العالمية للولايات المتحدة. لكنها يمكن أن تصف جيداً أيضاً واشنطن في العام 2019 -عاصمة إمبراطورية حولتها النخبة إلى جائزة كبرى بحيث تدور العداوات حولها، تماماً كما فعلت إمبراطورية أسيموف المستقبلية- وكما فعلت إمبراطوريات حقيقية أخرى في الماضي.
كيف أصبحت طبقة حاكمة فاسدة تشكل خطراً أمنياً وطنياً، وتهديداً وجودياً للإمبراطورية الأميركية؟ تكمن الإجابة في سبعينيات القرن الماضي، عندما تكشفت نقاط الضعف التي تكتنف العقد الاجتماعي الأميركي في منتصف القرن، من خلال الركود، وأزمة الطاقة، وحرب فيتنام الكارثية.
في محاولتها الرد على ذلك الواقع، اعتنقت النخب السياسية الأميركية الخصخصة، وإلغاء القيود، والتخفيضات الهائلة في الضرائب على الأثرياء، والاستعانة بمصادر خارجية لأداء الوظائف الصناعية، وتعظيم حجم ونفوذ المؤسسات المالية في الاقتصاد. وقد حلقت معدلات التفاوت واللامساواة منذ ذلك الحين، وشهدت الكثير من مناطق الولايات المتحدة تراجعاً ثابتاً بينما أصبحت حفنة من المدن الرئيسة، بما فيها واشنطن، شديدة الثراء ولا يمكن تحمل كلفتها تقريباً، من خلال تركيز احتكارات المال والتكنولوجيا والإعلام ومجموعات الضغط التابعة لها. وبحلول وقتنا الراهن، يعرف الكثير من الأميركيين القصة -لكن قلة منهم يفكرون في ما تعنيه لمكانهم في العالم.
هنك طريقتان تقليديتان لفهم الدور العالمي الأميركي. وفقاً لإحدى النظريات، أخلى العالم ثنائي القطبية في حقبة الحرب الباردة مكانه لعالم أحادي القطب، والذي أصبحت فيه الولايات المتحدة المهيمِن الذي لا يُنازع. وفي حين ينظر بعض المراقبين إلى هذا كشيء جيد ويعلون من شأن الإمبراطورية الأميركية، فإن آخرين يرون أنه شيء سيئ، ويسعون إلى مقاومة الإمبراطورية الأميركية. لكن كلا الجانبين يتفقان على أن الإمبراطورية الأميركية هي السمة المميِّزة لعصرنا.
وثمة نظرية أخرى، مختلفة عن الأولى فقط في الدرجات، والتي تؤكد أن عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم متعدد الأقطاب، مع تميز الولايات المتحدة باعتبارها القوة المهيمنة الواضحة بين العديد من المنافسين المحتملين، بمن فيهم بلدان مثل الصين التي قد تتفوق على الولايات المتحدة بطريقة يمكن تصور منطقها على الطريق.
ولكن، ماذا إذا لم تكن أي من هاتين النظريتين صحيحة؟ إن الفهم شبه العالمي للولايات المتحدة كفاعل عالمي قوي وموحّد هو فهم معيب وفي حاجة إلى مراجعة. الولايات المتحدة ليست قوة عظمى تفرض إرادتها على الآخرين بقدر ما هي سوق مفتوحة في الهواء الطلق للفساد العالمي، والذي تستطيع فيه القوى الخارجية شراء النفوذ، وتشكيل النواتج السياسية، وتأليب الفصائل ضد بعضها البعض في خدمة أجنداتها المتنافسة الخاصة.
وهذه قصة تاريخية مألوفة. وعلى الرغم من أن “المؤسسة” استمدت إلهامها المباشر من كتاب إدوارد غيبون “تراجع وسقوط الإمبراطورية الرومانية”، فإن التاريخ يغص بقصص الإمبراطوريات التي كانت تبدو قوية، والتي أدارتها نخب ضعيفة منقسمة، حتى تنازعتها وتخاطفت أطرافها قوى خارجية.
كان الكومونويلث البولندي-الليتواني، وهو جمهورية أرستقراطية هيمنت على شرق أوروبا بشكل أو آخر من القرن الرابع عشر وحتى الثامن عشر، قد مُحيت عن الخريطة على يد جيرانها، الذين وجدوا أنهم يستطيعون رشوة شيوخها لشل القرارات السياسية كافة. وقد لقبت الإمبراطورية العثمانية في أواسط القرن التاسع عشر بـ”رجل أوروبا المريض”، بينما اقتطعت القوى الأوروبية الغربية أراضيها وشجعت حركات الاستقلال ضدها. وخلال نفس الفترة، اضطرت الصين، في عهد أسرة تشينغ إلى تقديم الكثير من التنازلات الإقليمية لإمبراطوريات أوروبا الكولنيالية -التي ستتحلل كلها بدورها في غضون قرن.
ربما يكون من العبث مقارنة الولايات المتحدة في العام 2019 بقوى الماضي المنهارة والمتحللة. ولكن، دعونا ننظر في حالة العاصمة الآن. الرئيس دونالد ترامب، كما يعترف الجميع، في أحاديثهم الخاصة على الأقل، هو شخص غير كفء في الاضطلاع بمعظم مسؤولياته الأساسية، وهو أضحوكة عالمية كذلك.
وتقوم الحكومات الأجنبية بشراء إدارة ترامب بشكل علني، من خلال شبكته الدولية من الفنادق والمنتجعات، بما فيها واحد يقع مباشرة بين البيت الأبيض ومبنى الكابيتول الأميركي، حيث استأجرت مجموعة ضغط تتلقى تمويلاً من دولة عربية نفطية غنية 500 غرفة في الشهر الذي أعقب انتخابات العام 2016.
وحزبه السياسي، الذي ما يزال يسيطر على مجلس الشيوخ ويهيمن باطراد على القضاء، ليست له مصلحة في مساءلته عن أي من هذا. وبطبيعة الحال، هناك ذلك الشأن الصغير المتعلق بالتدخل الروسي في انتخابات العام 2016؛ وكما تؤكد المعلومات المحدودة المعروفة حتى الآن من تقرير المحامي الخاص روبرت مولر، فقد كان ترامب والجمهوريون على الأقل هم المستفيدون السلبيون والراغبون من الجهود التي بذلتها قوة أجنبية للتأثير على نتائج الانتخابات في البلد.
لكن ترامب هو مجرد عرَض، والمثال الكاريكاتوري الأكثر وضوحاً عن الكيفية التي أصبح بها نفوذ النقود الخارجية في واشنطن أمراً معتاداً على مدى الجيل الماضي. ومن النفوذ الغامر لبعض دول الخليج العربية على المراكز الفكرية ومنظمات الإعلام الأميركية، إلى خنوع الحكومة الأميركية بأكملها تقريباً أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية (آيباك)، إلى علاقة الصين الدافئة مع غرفة التجارة الأميركية ومع رؤساء بعض من أكثر الشركات الأميركية قوة، إلى توجيه الأموال الأجنبية من خلال صناعات العقارات في أكبر وأغنى مدن البلد -فإن الحكومة الأميركية معروضة للبيع.
من المؤكد أن النقود الأجنبية ليست المسألة الوحيدة، أو حتى الأساسية، التي تحكم واشطن. لقد مزقت مصالح الشركات القوية بشكل شبه كامل المساءلة الديمقراطية في العاصمة، بالإضافة إلى إحباط الصناعات الرئيسية التي مقرها الولايات المتحدة، مثل التمويل، والتأمين والطاقة، والتكنولوجيا. ثم مرة أخرى، هل هناك الآن أي شيء مثل صناعات مقرها الولايات المتحدة؟ الآن، توجد المكاتب والمقرات الرئيسية لمعظم أكبر الشركات متعددة الجنسات في مدن كبرى في كل أنحاء العالم، وتعني الثروات المذهلة لمدرائها التنفيذيين أن يكون لديهم من المشترك الاجتماعي مع نظرائهم الدوليين أكثر مما لديهم مع معظم الأميركيين.
لقد أدى الإلغاء الكامل للقيود على تمويل الحملات الانتخابية وما تلاه من شرعنة الفساد في واشنطن، على نطاق لم يُسمع بمثله في الدول المتقدمة الأخرى، إلى تكوين عاصمة حيث يصبح تمييز الفارق بين المصالح الممولة أجنبياً وتلك الممولة محلياً أصعب باطراد. وبعبارات أخرى، لم تعد حكومة الولايات المتحدة توجد لكي تخدم مصالح الأميركيين من خلال أي من سياساتها الخارجية أو المحلية؛ إنها توجد بدلاً من ذلك لإدامة مصالح الأوليغارشية المعولمة.
ثمة حجة مضادة لكل هذا: ما تزال الولايات المتحدة تنفق على الدفاع أكثر من الدول السبع التالية مجتمعة؛ وما تزال تشغِّل شبكة من مئات القواعد العسكرية المنتشرة عبر نصف بلدان الكوكب تقريباً؛ وليس هناك بلد آخر ينافس الولايات المتحدة -حتى من بعيد- في قدرتها على عرض القوة العسكرية. وليس هناك أي بلد آخر يدانيها في الثراء أو يصك عملة الاحتياطي العالمي، أو يستطيع أن يعرض مثل هذا القدر الكبير من القوة الناعمة.
وفي الوقت نفسه، فإن التركيز بالكامل على الإمبراطورية الأميركية من أعلى إلى أسفل يمكن أن يجافي منطق السببية.
فلنفكر، على سبيل المثال، في الإطاحة بزعيم مصر ما بعد الربيع العربي، محمد مرسي، في انقلاب في العام 2013. في مذكراته، لا يصف المستشار السابق للبيت الأبيض، بِن رودس، إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بوصفها القوة الدافعة وراء ذلك الانقلاب، وإنما يعرضها كمتلق سلبي لضغط مستمر لا يلين من دولتين حليفتين في منطقة الخليج العربي، واللتين شنتا حملة إعلامية ضد السفير الأميركي بينما تتآمران مع الجيش المصري.
يكتب رودس أنه تلقى شخصياً صورة في البريد، من سفير إحدى الدولتين العربيتين في واشنطن، والذي يتمتع بعلاقات جيدة للغاية هناك، والتي تصور السفير الأميركي كشريك لجماعة الإخوان المسلمين. وفي حين أن رودس وأباما واجها أيضاً ضغوطاً من داخل المؤسسة في واشنطن نفسها، فقد وجدا الحلفاء الأجانب يختطفون أجندتهما للشرق الأوسط -الحكومات نفسها التي ضغطت أيضاً، بنجاح متفاوت، من أجل قيام الولايات المتحدة بشن عمليات عسكرية من سورية إلى اليمن. ولا شك في أن القوة الأميركية، مهما كانت عظيمة، لا تعني شيئاً إذا كان يتم استغلالها لخدمة غايات أعلى مزاوِد.
وإذن، ماذا لو كانت الإمبراطورية الأميركية تشهد تفككاً في طبقاتها؟ إلى حيث ألقت، سوف يقول الكثيرون. كانت الهيمنة الأميركية كارثة، والتي نشرت الحرب والاستغلال في كل أنحاء الكوكب وتقوم بتسميم المناخ بطريقة يتعذر إصلاحها. وهذا صحيح: فكما لاحظ أسيموف، تميل الإمبراطوريات إلى السقوط لأنها تفرط في تمديد أنفسها، وتفسِد نخبها، وتنتج الشروط المسبقة لزوالها هي نفسها. لكن ما نراه الآن ليس انسحاباً مدروساً ومسؤولاً من الإمبراطورية من أجل الاستثمار في الحاجات الملحة في الاحتياجات العاجلة في الداخل، ولا هو ثورة ضد الإمبراطورية يقوم بها المعذبون في الأرض. إنه، بدلاً من ذلك، انهيار مطوّل جداً وهابط يستطيع أن يميزه أي طالب يدرس تاريخ روما أو القسطنطينية. إن أميركا هي الرجل المريض للقرن الحادي والعشرين، ويعرف ذلك كل من شاهد رئيسها وهو يتعثر في تجمع لقادة العالم المرتبكين، المشفقين.
 
*كاتب ومحرر في بروكلين، والذي تنشر أعماله في “ذا نيشن”، “نيويورك تايمز”، “الغارديان”، و”تيارات يهودية”، ومنشورات أخرى.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The American Empire Is the Sick Man of the 21st Century