Friday 19th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    29-Oct-2021

نزار قباني ... نرجسية متكئة.. و(الأنا) المتجذرة في مسيرته الشعرية

 الدستور

ذكريات حرب
 
 لم يخطر في بال (نرجس أو نرسيس أو نركسوس) المفتون بنفسه، والمغروم بحسنه، والمهووس بوسامته، والذي قضى نحبه غرقًا في البحيرة كما جاء في الأسطورة اليونانية أنّ يكون إحدى النظريات النفسية عند (سيجموند فرويد) الذي فتح الباب على مصراعيه في تفسير الذوات الإنسانية وأحلامها، ودوافعها النفسية والجنسية، بدءًا من الطفولة إلى مرحلة النكوص، مرورًا بتقدير الذات والأنانية وصولًا إلى (النرجسية) التي حددها بـ (الأنا) العليا باعتبارها موضوعًا ليبيديًا، مما خلق الكثير من الجدل في هذا المضمار.
 
سعى الشاعر (نزار قباني) منذ ديوانه الأول (قالت لي السمراء - 1944 ) إلى تذييل قصائده وتهميزها بـ (الأنا) التي لم يستطع الخروج منها حتى رحيله في 30 نيسان 1998، مُتخيلًا أنّه يكتب تاريخ النساء:
 
كي تحسي دائمًا بالكبرياء...
 
اقرأيني كلما فتشت في الصحراء عن قطرة ماء...
 
كلما سدوا على العشاق أبواب الرجاء ...
 
أنني أكتب تاريخ النساء... أثرَت القصيدة النزارية الخارطة الشعرية المعاصرة عندما استقال السفير الدمشقي من السلك الدبلوماسي، وامتشق سيف الشعر، واقتحم المعاقل المحصنة، ودخل الحرملك، وتحدى القوانين، وكسر التابوهات المحرمة، وسفّه التقاليد السائدة، ورسّخ مدرسة الحب لأعوام طويلة مازالت قائمة حتى اليوم، وانقلب نزار قباني - شاعر المرأة - كما كان يحلو أن يطلق عليه - على التاريخ القبلي، وأوكار الوطاويط المعششة، ودخل في تفاصيل علاقة الرجل والمرأة، بُغية الانعتاق من مفهومي الجسدي والعاطفي من جهة، والفكري والعقلي من جهة أخرى، لا سيما في دواوينه الأخيرة، عندما اتضحت رؤيته في الكائن – المرأة الذي سبب له في بدايات حياته الكثير من العوالم الغامضة والمغلوطة، وعمل على رفع وتيرة نرجسيته من خلال مشروعه الشعري – المرأة.
 
 الدواوين الأربعة الأولى
 
يقول (فرويد) في تعريفه للنرجسية: «إنّ طريق الحياة الجنسية تمر بالنرجسية، أي بحب الذات.»، وحدد النرجسية بالإستناد إلى (الأنا)، ويرى أنّها بالمفهوم الليبيدي تتأرجح بين الذات والموضوع، فينشأ نوعٌ من توازن الطاقة، وبقدر مايربح أحد القطبين، يخسر الطرف الآخر، فالنرجسية تعلل تناقض السلوك، وتبرر الموضوعات واختلافها على السواء، فهي مرتبطة بـ (الأنا) العميقة المفككة إلى (أنوات)، ولا يدرك النرجسي سوى (أنا) واحد التي تجمع كل التناقضات، و(الأنا) في شعر نزار قادرة على تفسير الكثير من قصائده، وتعليل سلوكه اللاوعي، فـ (الذات) هي التي تُحرك شعره بمنظومة مشروعه – المرأة.
 
لذا، حرص نزار قباني في كتابته الشعرية أو النثرية - باستثناء عدد من قصائده السياسية والوطنية - أنّ يضع بصمته الجسدية؛ لون عينيه، وشعره الأشقر، وأناقته، ورائحته، وسجائره، وتفاصيله ولغته التي أصبحت كما أراد (الكلمة النزارية)، واتكأ في علاقته مع المرأة بترسيخ صورته الشكلية والشعرية لمحبيه، ونجح في تلميع صورته أمام الآلاف من النساء، وأثار بوسامته غيرة الرجال، وتدرجت (الأنا)، ساعيًا في تقريب صورته من خلال حديثه عن غرفته الخاصة ومشطه ومنديله وقميصه، وقضاء وقته مع حبيبته أو عشيقته في غرف النوم، أو حتى غانية التقى معها في الطريق.
 
بدت نرجسية نزار في دواوينه الأولى: (قالت لي السمراء) و(طفولة نهد - 1947)، و(سامبا- 1949)، و(أنت لي- 1950) لافتة للنظر، فهو الرجل الذي تدور حوله الحكايات، والرغبات، وأحلام الصبايا، والصوت الذي يدغدغ السبايا، واليد التي تمنح الحب، والعين التي تكشف حلاوة الفستان وما يخفيه، والخصر ورقة الأنامل ، والقرط الطويل، وجمال الساق، وهو الذي أيقظ النهد من سباته كما في قصيدته (إلى زائرة):
 
ما أنت؟ ما نهداك؟ إن قهقهتْ
 
عواصفي، وشهوتي الملْجَمة..
 
لا يعرفُ الطوفان في جرفِهِ
 
ما حلل الله... وما حرّمه..
 
وهو الذي رفعها إلى جانبه، لكنها آثرت أنّ تبقى في مكانها، كما نقرأ في (همجية الشفتين):
 
حاولتُ أنّ أُدنيك من قممي
 
فهزئتِ من عطري.. ومن وَمْضي
 
ما أنت من بعدي.. سوى طلل
 
أنقاضُهُ تبكي على بعض..
 
عودي حقارة طينةٍ.. وغدًا
 
تبكين زهرَ الموسم الغض...
 
وهو الموعد المنتظر في (الشقيقتان):
 
قلم الحمرة.. أختاه.. ففي
 
شرفات الظن، ميعادي معه..
 
أين أصباغي .. ومشطي.. والحُلَى؟
 
إنّ بي وجدًا كوجد الزوبعة
 
لتقول العاشقة لأختها:
 
سَرّحيني.. جمليني.. لوّني
 
ظِفريَ الشاحب إنّي مسرعة..
 
في المقابل، فهذا الكائن – المرأة، لا همّ له سوى راحته، فهو النور الذي يفتح كل الأبواب والسجون، والمجد الذي لا ينتهي، فقد خُلِق لخلاص المرأة من أنّاتها وعذاباتها كما جاء في قصيدته (مسافرة):
 
يا صديقي وشاعري.. لا تُمكّنْ
 
قبضة اليأس من طموح شبابِكْ
 
أنت للفنّ قد خُلِقتَ وللشعر
 
سيهدي الدنيا بريقُ شهابك
 
أنا دعني أسيرُ.. هذا طريقي
 
وامش يا شاعري إلى محرابك
 
ما خُلقنا لبعضنا.. يا حبيبي
 
فابق للفن.. للغِنا.. لكتابك..
 
 الدوافع النرجسية في حياة نزار
 
تميزت علاقة نزار قباني مع أمه بخصوصية عالية الحِس لأكثر من أربعين عامًا، وشعر باليتم الحقيقي عند فقدانها، يقول عن (أم المعتز) كما كان يحب أن يناديها: «علاقتي مع أمي ظريفة جدًا، كنتُ الطفل المدلل وصاحب الامتيازات بالمنزل، كانت تخبىء لي اللحم الجيد وتغطيه لي، فيكون نصيبي أكبر من نصيب اخوتي، أرضعتني حليبها حتى السنة الثالثة من عمري، واستمرت علاقتي معها حتى بعد أن عملت بالسلك الدبلوماسي، كانت ترسل لي الأطعمة إلى الخارج أثناء عملي هناك..»، وفي رواية أخرى:»أرضعتني من حليبها حتى السابعة من عمري»، وهذه دلالة على طبيعة العلاقة بينهما، وأثرها في علاقته مع النساء جنسيًا، والنهد على وجه الخصوص، والمعنى النفسي لهذه العلاقة التي تشبع الطفل غرورًا ونرجسية في حضن أمه. فقد أثبتت الدراسات النفسية أن علاقة الطفل مع أمه في المرحلة العمرية الأولى تخلق في دواخله الأمان وشعوره بالزهو وحب الذات والاحساس بالخصوصية دون الآخرين: «أريد الرجوع إلى صدر أمي.. أريد الحياة..»
 
أمّا وسامته، فهي الأثر الأكبر في تمجيد ذاته كما قال في ديوانه (مئة رسالة حب – 1970):
 
أنا متهم بالشهريارية
 
من أصدقائي..
 
ومن أعدائي ..
 
متهم بالشهريارية
 
وبأنني أجمع النساء
 
كما أجمعُ طوابعَ البريد
 
وعلب الكبريت الفارغة
 
وأعلقهن بالدبابيس
 
على جدران غرفتي
 
يتهمونني أيضًا.. بالنرجسية ..
 
وبالسادية..
 
وبالأوديبية
 
وبكل ما في كتب الطب النفسي من أمراض
 
ليثبتوا أنهم مثقفون..
 
وأنني منحرف..
 
هو شهريار النرجسي المتباهي بعلاقاته، ويكفي أنّ تحبه احداهن لتزداد وسامته، لكنها ستبقى امتدادًا: «وأنا صوتك سيدتي مثلما الآه امتداد الوتر.. وأنت امتداد يدي..»، إذًا هي امتداد قصيدته – الأنا.
 
وما حدث في طرابلس عام 1972 عندما خرج من أمسيته الشعرية، وفي انتظاره آلاف المعجبين، كشفت احدى الفتيات عن ساقها طالبة منه أن يوقع عليها وسط استغراب الناس، فأمهرها بتوقيعه، مُعبرًا عن حبه اللامتناهي لشخصه وشعره، فضلًا أنّه كان دومًا على استعداد للتصوير والمقابلات، ويتصرف مع الناس كأنه أمير، وحرص على وضع صورته على أغلفة دواوينه، في الوقت الذي لم يكن أيٌ من الشعراء المعاصرين له حريصين على توزيع صورهم مثل بلند الحيدري والبياتي والفيتوري وعبد الصبور. واستثمر جماله في تسويق شعره، وكان يحضر معارض الكتب، ويجلس عند دار النشر الخاصة به للتوقيع.
 
الدافع الثالث لنرجسيته، فعمله الدبلوماسي فسح له المجال ليرى ما لم يدركه في مدينته الضيقة، وتنعم في عوالم كثيرة، ومكانة مرموقة في الأوساط السياسية و الاجتماعية، مما كان له الأثر الأكبر في حضوره الدائم في المجتمعات العربية والدولية.
 
 المرأة عند نزار امتداد وليس كائنًا حرًا
 
في مرحلته الشعرية الثانية، المتمثلة في عدد من دواوينه مثل؛ (حبيبتي) و(الرسم بالكلمات) و(قصائد متوحشة) و (أشعار خارجة على القانون)، تعددت (الأنا) في جُل قصائده، وعززها في رصد حالاته العشقية، وكشف عن مكنوناته وكبريائه في كل حرف كتبه، فهو الوحيد القادر على تقليب المرأة وإغوائها واحتوائها كما يرغب، أمّا هي، فقد احترقت من هول عشقها للذي أمامها وهو يدخن، كما جاء في قصيدته (صديقتي وسجائري):
 
واصل تدخينك.. يُغريني
 
رجلٌ في لحظة تدخين..
 
هي نقطة ضعفي كامرأة
 
ضعفي وجنوني..
 
ما أشهى تبغك والدنيا..
 
وتصف حجم معاناتها قائلة:
 
أشعل واحدة من أخرى..
 
أشعلها من جمر عيوني..
 
ورمادك ضعه على كفي..
 
نيرانك ليست تؤذيني
 
فأنا كامرأة.. يرضيني
 
أنّ ألقيَ نفسي في مقعد
 
ساعات في هذا المعبد
 
أتأمل في الوجه المُجهَد
 
وأعُدُ.. أعُدُ.. عروق اليد
 
لتصل إلى حالة الفناء:
 
أحرقني.. أحرق بي بيتي..
 
وتصرف فيه كمجنون..
 
دخن.. لا أروع من رجل..
 
يفنى في الركن.. ويُفنيني..
 
فالعاشقة جزء من الديكور الذي يحيط بـ (قباني - نرسيس) الذي لا ير أحدًا، ولا يشعر بالنيران من حوله، والجميع يتابع حركاته، وخطواته في عيون المتيمة به، وهي تفيض ولهًا ووجدًا، ولا تتردد أنّ تكون نهايتها على يديه، ويبقى هو كما هو:
 
ويعترف قباني في قصيدته (حب 1994) بنرجسيته:
 
تزداد نرجسيتي ..
 
كلما رأيتُ دروس الحب التي قرأتها عليك..
 
على مرايا جسدك..
 
تزداد كبريائي كلما شعرتُ أنّ التي كانت تلميذتي
 
في أول السنة الدراسية..
 
أصبحت أستاذتي.
 
ويخبرها في (حُبّ على الفاكس): كل المساحيق التي تستعملينها ..
 
لا تجعلك جميلة..
 
وحدها قصائدي تجعلك امرأة!!
 
ويكرر الصورة نفسها في (كتاب الحب): ليس يكفيك أنّ تكوني جميلة..
 
كان لا بد من مرورك يومًا..
 
بذراعي..
 
كي تصيري جميلة..
 
ويعيد هذه الترنيمة في (الرسائل المحترقة):
 
جمالُك ماذا كان؟ لولا روائعي
 
فثغرُك بعضٌ من أناقة أحرفي
 
وصدرُك بعضٌ من عويل زوابعي
 
أنا بعض هذا الحبر.. ما عدت ذاكرًا
 
حدود حروفي من حدود أصابعي..
 
ولا ضير إذا اتهمها بالجهل رغم علاقاتها السابقة، فهي لم تعرف الحب، والرجل الحقيقي قط، إلا بعد أنّ تعرفت على شاعرنا صاحب الفتوحات العظيمة الذي نفخ في جسدها، وأحياها بعد أنّ كانت رمادًا كما جاء في (مئة رسالة حب 1970):
 
قبل أن أدخل مدائن فمك
 
كانت شفتاك زهرتي حجر
 
وقدحي نبيذٍ... بلا نبيذ
 
وجزيرتين متجمدتين في بحار الشمال
 
ويوم وصلت إلى مدينة فمك..
 
خرجت المدينة كلها
 
لترشني بماء الورد
 
وتفرش تحت موكبي السجاد الأحمر
 
وتبايعني خليفة عليها..
 
لم يكن نزار قباني يبحث عن امرأة يعشقها بقدر رسم تجلياته وتفاصيله في لحظات الهوى التي أراد ترسيخها في
 
مدرسته النزارية، وانتصاره في كل معارك العشق حتى أنه إذا تذكر ماضيه ابتسم لأنه تسلى كيفما أراد:
 
وتسليت كثيرًا وتبسمت كثيرًا
 
وأنا أفتح كنزًا عمره عشرون عامًا
 
آه كم ينقلب الإنسان في عشرين عامًا
 
عطفًا على ما سبق؛ فإنّ سلوكه اللاارادي – حب الذات - لم يكن غير الوجه الآخر لغزلياته المستمد من تربة واحدة الكامنة في اللاوعي. فالأسلوبية النفسية التي اتبعها نزار قباني تمحورت في تصاعد وتيرة النرجسية في مشروعه الذي سعى في بداياته أنّ يكون مختلفًا عما هو سائد في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ومعاناة المرأة في بعض الأوساط الاجتماعية من السلطة الذكورية، وقد عاشها قباني على أرض الواقع في العلاقة الأحادية الجانب بين والديه، فقد كانت عائلته كغيرها من العوائل الشامية، فضلًا عن انتحار شقيقته العاشقة (وصال) التي كانت نقطة تحول في حياته، والتي اتكأ عليها في مسيرته الشعرية.
 
لقد كانت المرأة مفردته الشعرية التي يُشكلها كما يشتهي، وهي الخاضعة الممتدة في مفهومه لعلاقته معها، كما قال في ديوانه السابق:
 
فأنا في شؤون الحب.. أصنع دساتيري
 
وأحكم وحدي..
 
ليخبرها في آخر الأمر:
 
كوني إذًا حبيبتي
 
واسكتي
 
ولا تناقشيني في شرعية حبي لك
 
لأنّ حبي لك شريعة
 
أنا أكتبها..
 
وأنا أنفذها
 
أمّا أنتِ
 
فمُهمتك أن تنامي كزهرة مارغريت
 
بين ذراعي وتتركيني أحكم...
 
وما كانت (شؤون صغيرة) إلا أنموذجًا لمشروعه الأكبر المتجذر في (الأنا) الأكثر جدلًا في الأوساط الثقافية والدراسات النقدية، حتى بات الحديث عنه لا عن مشروعه الشعري فقط.
 
 المراجع:
 
* الأعمال الشعرية الكاملة ج1- 2 : نزار قباني.
 
* قصتي مع الشعر: نزار قباني.
 
* النرجسية في أدب نزار قباني: الدكتور: خريستو نجم.
 
* خمسون عامًا في مديح النساء، الطبعة الأولى 1994.