Saturday 20th of April 2024 Sahafi.jo | Ammanxchange.com

المواضيع الأكثر قراءة

 
  • آخر تحديث
    21-Jun-2019

السـارد وذاكـرة المكـان فـي «زهـريــت»

 الدستور-د. إبراهيم خليل 

 قد لا يكون لتلك القرية موقعها الجغرافي، الحقيقي، وإن كانت تشغل موْضعًا كبيرًا في المتخيل السردي لرمزي الغزوي، اسمها زهريت، وفيها تجري أجواء هذه القصص التي يقترب عددها من الخمسين، لأن بعضها قصص قصيرة جدًا، وقد لا تتجاوز القصة منها الصفحة الواحدة، وبعضها لا ينتسب لها النوع الذي يُعرف في الأدب الغربي باسم « أقصوصة « short short story أو بكلمة أخرى (سكتش) أي: أنه مشروع قصة، لا قصة، بالمعنى الدقيق. صحيحٌ أنَّ القارئ يحتاج لقراءة نحو ثلاثٍ وعشرين قصة من المجموعة (زهريت) (دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2019) قبل أن يصل تلك القصة التي تروي لنا ما كان من شأن القرية التي أطلق عليها عامة الناس، من زوار لها، ومقيمين فيها، اسم « زهريت» وهي القصة التي بعنوان (مكبُّ الزيْت) التي تروي على لسان السارد، وهو طفل يتذكر، ما يمكن أن يكون قد سمعه من الكبار في البلدة، عن مغادرة التجار ببضاعتهم من زيت القرية، ليكتشف الأهالي بُعَيْد ذلك أنَّ جرذًا كبيرا كان قد نفق في البئر الصخري الذي يحتفظون فيه بما يفيض عن حاجتهم من زيت الزيتون. ولذا سارعوا لاهثين، راكضين، وراء التجار، وصاحوا بهم عند إدراكهم لهم: أن كبّوا الزيت .. كبّوا الزيت.. ولم يستجب التجار، بطبيعة الحال، إلا بعد أن سمعوا تفاصيل الحكاية، وأعيدت إليهم نقودهم التي دفعوها ثمنًا للزيت. وسُميَ المكان بهذا الاسم الذي اختاره الكاتب عنوانا للقصة (مكبُّ الزيت) وفي العام التالي اكتشف التجار زهورًا جديدة نبتت في مَكبّ الزيت، لم يروا مثلها من قبل، فأطلقوا على تلك الزهور اسمًا يذكرهم بحكاية المكبّ، وهو « زهرة الزيت « الاسم الذي حُرّف لاحقًا (زهريت) وأصبَحَتْ تُعرف به تلك البلدة التي تحيط بها كروم الزيتون إحاطة السِوار بالمعْصَم.
ومن يقرأ القصص، يُلاحظ- دون حاجة إلى التأمل، أوْ التأويل - أنها جميعا تقع في هذه البلدة المتخيَّلة، التي لا بد أن الكاتب الغزوي يرمز بها لإحدى القرى، فالمكانُ الريفي هو الإطار الذي تجري فيه معْظمُ القصص، دون تحديدٍ، أو تعْيين.
فالراوي، وهو أحد أطفال القرية، لا يفتأ يعود بذاكرته إلى الوراء، أي إلى طفولته المبكّرة، وشقاوته المتَعَثِّرَة، فيأخذ صفرًا في الحساب، أو يتسلَّق دالية أم محمود ، ويقطف حصرمًا منها دون إذن، أو يختلس النظر من ثقوب الأبواب، أو يسطو على البيض، أو يلوّث بالطين وجه بنت الجيران .. فلا تجد الأم بدًّا، ولا مناصًا، من تأديبه، فتتخذ من الاستحمام بالرغوة والصابون شكلا لهذا العقابِ البَدَنيّ، ترافقه « زخات متفرقة من الصفعات الرنانة على عُرْيه الزَلِق» (ص10) فالاستحمام يغدو في هذه الأجواء- إذن - عقابًا لا تزول كدماته، وآثاره، إلا في الاستحمام التالي. 
وهذا الطفلُ، الذي يتكرر توظيفه في القصص، لا يفتأ يعود بذاكرته إلى الماضي عندما كان يحاكي جدَّهُ في ممارسة طقوس العبادة، ومنها الصلاة (ص11) أو عندما كان يرغب في قطف الورود من حديقة الخيّاطة، وهو لما يُتمّ الخامسة من عمره, فيتلقى منها صفعة مدوية، وهي لا تأبه لجناحه المهيض، ولا لسقوطه المريع، ولا لبكائه الفظيع. (ص13) ومع ذلك لا يني بتذكر شجرة التوت التي كبُرت، وكبُر معها، وكبُرت معهما أحلامه (ص 14). ويغالي الغزوي في استعادة ذكريات هذا الطفل، الذي يؤدي في الوقت نفسه دوْرَ الراوي ، فيجري حوارًا بينه وبين الشيخ صاحب الدكان الوحيدة في البلدة، ويحاكي في ما يكتبُه من هذا الحوار لثغة الطفل التي تجعل الشين ثاءً: 
-    أنا بدّي طبثة البياع ياثيخ (ص15) 
وتلك لثغة قلَّما تشيع بين الأطفال شيوع اللثغة بالراء أو السين، وهي لثغة لا يعاني منها الناطقون بالعربية، صغاراً وكبارًا ، مما يفصح عن أنَّ هذا الطفل – السارد- ليس طفلا نمطيًا، بل يتمتّع بخصوصيةٍ ما قد تشير بخفاء لشخصية الكاتب المؤلف. وقد تكررت الإشارة لمعاناة هذا الطفل – السارد- من اللثغة ، فأبوه يلقّنه أبياتًا غزلية عن القهوة المحبوبة التي تجلى في الفناجين، وشاعَ ذكْرُها في الصين، ومع ذلك يستغرب لأنه في الأعراس، والمناسبات، التي رافق فيها أباه، دأبَ صبّابو القهوة على تجاوُزه، وتبدو هذه الإشارة فرصة مواتية لتداعيات الراوي عن الذكريات المتصلة بالقهوة، فتكرُّ كرّا كحبات المسبحة، يتذكر جده، والمحماسة، والجمر المتقد الملتهب، والإيقاع الذي يصدر عن جده وهو يدقّ القهوة، ويطحنها بمِدَقَّة المهباش، في إصرار لافت على استعادة أجواء القرية، ورجالاتها، الذين يفخرون بما لديهم من (شوارب) تقفُ عليها الصُقور (ص17). 
ومن أجواء القهوة إلى صلاة الاستسقاء، حكاية تعود بنا أيضا إلى طفولة هذا الراوي، وذكرياته عن الحياة الشعبية في البلدة المتخَيَّلة زهريت. فهو يتذكر موسما تأخر فيه المطر، حتى كادت تنقطع أخباره، ومن العادات التي يتذكرها الراوي إدارة الرحى بلا حبوب، وتعليق أدوات الحراثة على الجدران بالمقلوب، وترديد الأغاني الشجيّة التي تدعو الله، وتدعو أم الغيث، لاجتلاب المطر بتلك الأدعيةٍ غيثا دائمًا، مدرارًا، يروي الزروع، ما كان منها في الغرب أو في الشرق (ص20)، وارتداء الثياب مقلوبة أيضًا، بيد أنَّ مثلَ هذه العادات، التي كان يُظن أنها تأتي بالمطر، لا تكفي، إذ إن أحد رجالات البلدة (جنّون) صاح بالحشد الذي يصلي صلاة الاستسقاء، قائلا: 
-    يا أهل زهريت، قبل أن تقلبوا ثيابكم ، اقلبوا قلوبكم(ص21). 
وكأنّ في هذه الصيحة احْتجاجًا على المظهر الخارجي الذي اعتادوا عليه، وهو قلب الملابس، في حين أن ما في ضمائرهم، ونفوسهم، الكثير من النفاق، والمعاصي، وهو ما لمْ يتركوه. فما فائدة التغيير في المظهر إذا كانت العلة باقية وراسخةً في الجوهر؟ ولهذا يمضي صاحبُ هذه الصيحة (جَنّون) وهو اسمٌ لا يخلو من دلالةٍ على رأي الناس فيه، دون أن يصلي مع المصلين، لقناعته بأنهم لا يَسْتحقّون أنْ يُمْطَروا.
ولهذا السارد – الطفل- هوسٌ بحياةِ الريفيّين، وما لها من طابع شعبي، وما تتصف به من بساطة، لا تحول –قطعًا- دون أن يؤمنوا إيمانا شديدًا ببعض الخرافات، والخزعبلات، كالاعتقاد بأنّ الثآليل تظهر في الأيدي التي تشيرُ إلى النُجوم عند عدّها. وهذا الطفل – السارد- لم تظهر في يديه الثآليل، وإنما ظهَرَتْ على يد أخيه الذي لم يكن شغوفًا بتعداد النجوم، والإشارة إليها بيده. والعلاجُ، مثلما يرى بعض هؤلاء البُسطاء، اصطياد حرباء، ثم دفنها في مفترق طرق، أوْ تعليق رأس بصل في غرفة المؤونة حتى يجفّ، ويَسْقط ، فتسقط معه الثآليل، وثمة طريقة أخْرى، وهي إخفاء باذنجانة ريّانة بين فروع شجرة تين، بشرط أنْ تقع الشجرة وحيدةً على قارعة طريق. وبعد يأس من جلّ هذه الطُرق اقترح الراوي على أخيه المصاب بالثآليل التحَرُّشَ بالنجوم، وتعدادها، مع الإشارة إليها بيديه، وألا يبالي بما قيل، ويُقال، فما كان من الثالولة إلا أنْ سقطت عن يده كبُرعم ميِّت(ص15).
والمغزى المستفاد من هذه القصة واضح، وهو بطلان العلاج بالشعوذة، والوسائل الغريبة، المضحكة،التي لا أساس لها. كذلك نفيُ ما يظنه بعض الناس من أن التحرش بالنجوم، وتعدادها في أثناء النوم على السطوح صيفًا، يؤدي لبروز الثآليل في الأيدي. فهذا كله من المعتقدات الخرافية، والأباطيل التي وجدت لها آذانا مصغية لدى بعض البسطاء من الفلاحين. فالخطابُ السردي - ها هنا - علاوة على أنه نبش في الذاكرة- ذاكرة السارد، وذاكرة المكان- خطابٌ لا يخلو من نقد ساخر، لاذع، لبعض الممارسات الشعبية، وهو نقدٌ يدعو لتحرير العقل الريفي من تلك الخزعبلات، ويفك أسره من هاتيك الخرافات.
ويبدو لنا هذا السارد ساردًا يصدق عليه وصف العامة له ( بكثير الغلبة). فقد دأب على محاكاة الكبار في صغره، وظن أنه باختلاسه سيجارة من علبة أبيه، وتدخينها، يُدْرجه في عداد الكبار، مِصْداقا للقول (حلاوة الشَبّ سيجارته) ولكنَّ الأب يصفعه على ظاهر يده التي تمتد إلى ما هو ممنوع، ويلذع أصابعَه بزهرة السيجارة، فيبكي ألماً. أما الجد فأراد إقناع حفيدة باجتناب التدخين بطريقة أخرى، إذ قام بلفِّ سيجارة لحفيده، وقدمها له طالبا منه التدخين.» فجحظت عيناي كحبتي فِطْر، وازرقَّ خاتم فمي، وحسبت أنني لن أعود إلى مدارج الحياة « (ص27) وهرع الجد لانتزاع السيجارة من حفيده، شاتما الدخان، ومكتشفه، وزارعه، وبائعه. « ولهذا لم يجب الحفيد عن سؤال جده إن كان ينوي التدخين ثانيةً، أم أن هذه هي المرة الأولى والأخيرة، مكتفيًا بهز رأسه علامة التردُّد، وانعدام اليقين.
والسؤال الذي يتبادر للأذهان هو: لمَ يمتنع السارد- الطفل - عن الإجابة؟ ولماذا لم يقرر في حينه الامتناع عن التدخين طالما أن شعوره بالاختناق منه، شعور منْ يوشك أن يفارق الحياة؟ الجواب عن هذا واضح، فلو أن الكاتب جعل السارد يقرر عدم التدخين، لكانت القصة في هذه الحال تشبه المواعظ، ونتيجتها محسومة. ولهذا وُفق الكاتب الغزوي في ترك النهاية غامضة يستخلص القارئ من غموضها الماسيّ هذا عَزْمَ الفتى على عدم التدخين مرة أخرى. ونستشفُّ من القصة نوعًا آخر من المغزى، وهو أن اللجوء إلى الردع بالعنف قد يأتي بنتائج  عكسية، مثلما كان أسلوب الأب قاسيًا مع الصبي، فلم يردعه، ولكن الردع عن طريق الملاطفة، واتباع الإقناع، بأسلوب بعيد عن العنف، والعقاب البدني، هو الذي يعود على الراوي بالنتيجة الجيدة، المرجوَّة.
فكتابة القصة لدى رمزي الغزوي ليْسَتْ نبشًا في الماضي فحسب، وتذكارًا لأيام خلتْ، وسنوات مضَتْ، من عمر السارد، وإنما هي مشروعٌ يخضع لتصميم تتضح فيه معالم، ويطَّرد له نسيج، وتتضافر فيه خُيوط، في تصوُّر يَضعُ القارئ في بؤرة الحكاية، مستخلصًا منها النهاية التي تحتّمها الدوافعُ، والحوافز، الموجودة. وهذا واضحٌ في قصة « نارُ نارا..» وهي امرأة ممن كدحوا تحت سلطة، أو سطوة، الإقطاعي المتجبر الذي يطمع في علاقة غراميَّة بتلك المرأة « ذات العشرين قهرًا. النزقة كجذوة بركان. البيضاء كشقِّ اللفت. ولها جديلتان كحنشين سوداوين جمعتهما لحظة حب» (ص36) وهي على هذه الصفات ترفَعُ رأسها، وصوتها، في وجه ذلك المتغطرس، ذلك الرجل الذي ما فتئ يحاول ترويضها، إذ تستفزه بضحكةٍ، مجلجةٍ، صاخبة، وكلمة ساخرة، أثارتْ نخوة الرجال في البلدة، فهبُّوا، وانهالوا عليه بالفؤوس، وبكل ما اقتدرت أيديهم على الوصول إليه، وهم يصيحون صيحة رجل واحد: نحن رجال يا نارا.. رجال يا نارا .. وهذا ما يفسِّر العادة السائدة لدى رجال البلد، فعندما يغضبون يصيحون « أنا أخو.. نارا «(ص35).. ولا تختلفُ هذه القصة عن سواها من حيث أنها ذكرى يرويها السارد عن جدَّته « لما كنتُ طفلا أرافق جدتي في منطقة [لستب] غربي قريتنا، كانت تطلبُ مني أن أَنْصتَ، بكامل قلبي، علّي أظفر بضحكة نارا، أو صرختها»(ص33) وقارئ القصة سيواصل عن طريق السارد، وَمحْكيِّهِ القصصي، تتبُّع حكاية الضحكة، والصرخة، مع (لستب) وهو الوصف الذي يُطلقه على ذلك الطاغية المتسلط الذي قتله الرجال، وهم يصرخون: أنا أخو.. نارا. فالمقدمة القصيرة توَجِّهُ - بتقنية سردية لافتة - وعي القارئ ليواكب في الأثناء حرص السارد على تبويب متواليات الحدث. ومثل قصة (نارُ نارا) الكثير من القصص، وقد يطولُ بنا الأمر إذا أردنا تتبُّع ما فيها من تقنياتٍ، ودلالاتٍ، وما فيها من فواتِحَ ونهايات.
ويُذكرُ أن للغزوي عددًا من المجموعات القصصية، منها: غبار الخجل 2000 ومواء جلجامش 2003 وموجة قمح 2005 عدا خمس مجموعات من قصص الأطفال، وديوان بعنوان « مدن عاجزة نفسيًا « 2009 وبضعة مؤلفات أخرى بين مقالاتٍ، ونُصوص، عن المكان. وكتابٌ من أدب الرحلات، بعنوان « تطريزٌ على طريق الحرير» وهو كاتِبُ عمودٍ ثابتٍ في صحيفة الدستور اليومية، ونالَ غير قليل من الجوائز، منها جائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال 2014 وجائزة محمد طملية لأحسن مقالة صحفية 2012 .